lundi 7 avril 2008

ملخص بدون نصوص

الوضع البشري

مقدمة

لقد أصبح من الضروري التساؤل عن طبيعة الوضع البشري لأن نظرتنا إلى الإنسان تختلف باختلاف الزاوية التي ننظر منها إليه .فإذا نظرنا إليه باعتباره شخصا فإننا نقاربه من زاوية الأخلاق أو القانون أو الميتافيزيقا ، وإذا نظرنا إليه في واقعه الاجتماعي وعلاقاته بالآخرين فإنه يعكس التمظهرات التي يظهر بها ، فهو إما شبيه أو مماثل أو عدو أي يعكس وضعا متميزا .

إن الإنسان كائن بيولوجي يخضع للمؤثرات الطبيعية والزمنية التي تنتمي إلى وجوده الطبيعي ككائن حي ؛ وفي نفس الوقت إنه كائن عاقل بامتياز ؛ بحيث أتاحت له ملكة العقل القدرة على التباعد أو الانفصال عن الوضع الطبيعي خالقا مجالات إنسانية خاصة وبدأ يؤرخ لوجوده ولكينونته ؛ وضمن هذه الكينونة الإنسانية نسج علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية. لهذا التجربة الذاتية لشخص ما لا يمكن إدراكها إلا ضمن الوجود الإنساني ككل ؛ فالأنا الفردي هي أنا جماعية ، أي أن التجربة التاريخية مشتركة رغم تميز الذوات عن بعضها البعض ، ولأن البعد الأساسي والوظيفي في الشخص حاضر .وهذا ما يعطي للوجود الإنساني بعدا رمزيا وثقافيا بصفته شخصا أخلاقيا وقانونيا مؤسسا علاقات تفاعل واندماج مع الغير .وكأن الآخر ضروري لتكوين الوعي بالذات ومعرفة خصوصيتها . من هنا نطرح الأسئلة التالية كيف تتناغم هوية الشخص مع هوية الجماعة ؟ وكيف يعيد الشخص بناء شروط وجوده ؟ وما دور الإنسان في صناعة التحولات التي تعرفها المجتمعات البشرية؟ هل الوجود الإنساني تجربة ذاتية منفردة أم تجربة تنتمي إلى التجربة الجماعية والتاريخية المشتركة؟

الشخـــــــــــص

إنه من الصعوبة بمكان تحديد مفهوم الشخص كما أشار إلى ذلك إمانويل مونيه في مؤلفه حول الشخصانية ، لأنه ليس بشيء إنه كائن له شخصيته لا تتحدد فقط من خلال وظيفته أو سيماته الكلية بل من خلال خصوصيته التي تجعل منه كائنا متميزا ومتفردا . الشخص كيان نفسي واجتماعي واقتصادي ولسني ... يقول مونيه كنا ننتظر أن تعطي الشخصانية معنى للشخص ولكن في الواقع لم تحدد سوى المظهر الخارجي أي ما يمكن أن يقع عليه نظرنا في حين لم تستطع الغوص في الموضوع لأن الشخص ليس بشيء . وهكذا فالسمة الأساسية للشخص هي هويته ، وهذه الهوية تتشكل عبر نموه وتطوره من خلال علاقاته المتنوعة والمتداخلة مع الغير القريب والبعيد ، وتكون اللغة الحامل للمعطيات الأولية لتشكل الأنا ونمو الوعي بالذات والعالم والغير . هنا تبدأ الملامح الوجدانية والذهنية والمعرفية تتشكل وتظهر معها السمات الأولية للشخص .وتلعب الذاكرة دورا كبيرا في تشكل الوعي بالذات كأنا عاقلة .

من هذا المنطلق يمكن أعطاء معنى أولي لمفهوم الشخص : موضوع morale باعتباره كائن يتمتع بالحرية و حق الاحترام و الحفاظ على كرامته . نستخلص من هذا التصور أن مفهوم الشخص لا ينطلق من مبدأ الوجود أو مبدأ الحدث ولكن من مبدأ الحق كأن نقول مثلا يجب أن أتحمل مسؤوليتي ، يجب أن أضع حدودا لأفعالي حتى أضمن احترام الآخرين لي ....هنا يظهر مبدأ الواجب . يقول كانط الأشياء لها فقط ثمن والشخص له كرامة وهذه الكرامة تستوجب الاحترام والتقدير .من هذا المنطلق العبودية مسألة لا أخلاقية ونفس الشيء الدعارة لا أخلاقية وبيع الأعضاء البشرية ليس بأخلاقي ...

كتب كانط يقول في كتابه ميتافيزيقا التقاليد الإنسان بصورة عامة كائن عاقل يوجد كغاية في حد ذاته وليس كوسيلة ... وقد ذهب مونيه أبعد من ذلك متجاوزا النظرة الميتافيزيقية للشخص يرى بأن الشخص يعيش مع أشخاص آخرين في عالم واقعي .

لهذا قد نعتبر فكرة الكوجيطو الديكارتية بمثابة التعريف الأولي لمفهوم الشخص المتفرد القادر على التمييز بين الخطأ والصحيح بين الخير والشر بفضل ملكة العقل وقوة الإرادة .

وقبل أن ننتقل لمعالجة الموضوع لا بد من التمييز بين مفهوم الشخص والفرد ، الفرد غايته تحقيق ذاته مما يؤدي به إلى الفر دانية والانعزال أو الانطواء على الذات . بينما الشخص يتمحور حول الغير ولا يتعرف على ذاته إلا من خلال الغير وذلك بالتخلص من الميل الفر داني .

نحن الآن أمام إشكالات تتعلق بالمفهوم من ناحية وبالمنهاج من ناحية أخرى . إضافة إلى الإشكالات الفلسفية التي يطرحها المفهوم مثل الحرية الإرادة الاستقلالية الأخلاق ... إشكالات تتعلق بالشخص والهوية

أ—الشخص والهوية

المقصود بالهوية أن الشيء هو هو ؛ فالهوية الفردية للشخص تنحصر في نظرته لنفسه وتعريفه لذاته ، وهذه الهوية لم تولد معه بل تشكلت من خلال المجتمع . وهكذا تظهر مبكرا إشكالية الهوية عند الطفل خاصة إذا كان ينموا في وسط تغيب فيه المرجعيات ، نقول أحيانا إن مشكلة الهوية مشكلة اليافعين. فكل شخص يقدم نفسه ك"أنا" ويضفي على تجاربه الشخصية طابعا ذاتيا حيث يمركز الحديث حول أناه. يقول لوك " لكي نهتدي إلى ما يكون الهوية الشخصية لا بد لنا أن تتبين ما تحمله كلمة الشخص من معنى ، فيما أعتقد ، كائن مفكر عاقل قادر على التعقل والتأمل ، وعلى الرجوع إلى ذاته باعتبار أنها مطابقة لنفسها ،" إذن مالذي يحدد هوية الشخص ؟

نستخلص من النصين أن هناك تصورين مختلفين لمفهوم الهوية ووحدتها ، ولكل نص مرجعيته المعرفية . مع شولي

نحن أمام تصور ميتافيزيقي للشخص رغم رفضه للتصور الماهوي ، ولفكرة المعطى الجاهز ، يرى بأن الشخص محكوم بآلية نفسية مهمتها التوفيق بين الطباع والمزاج من خلال الذاكرة ، وبالتالي تكون هوية الشخص هي نتيجة لتذكر الظواهر وربط بعضها مع بعض . أهمية " النفس " في بناء الهوية من خلال الفعل العقلي " الذاكرة " وكأن الهوية هي مجرد تسلسل الأحداث من خلال الذكريات.

إن الوعي عند لا شولي يعني الذاكرة والتي ليست سوى صدى متواصل أو متقطع للماضي في الحاضر .

أما فرويد فقد تجاوز التصور الميتافيزيقي لمفهوم الشخص والهوية . وشرح واقعيا عملية النمو والتكون التي تتم عبر العلاقة المتوترة بين مكونات الشخصية " الأنا ، الأنا الأعلى ، الهو " يلعب فيها الأنا دورا كبيرا في الحفاظ على خصوصية هوية الشخص وتوازنها . فالوعي عند فرويد ليس الذاكرة التي تسترجع الأحداث بل إنه وعي من حيث هو شعور واع يلعب دور الوسيط بين اللاشعور والواقع ؛ إن الأنا مع فرويد له معنى سيكولوجي .

نستخلص مما سابق أن الشخص محكوم بآلية نفسية ، ,انه ليس معطى جاهز ولا بشيء ، إنه غاية في حد ذاته على حد تعبير كانط . وهذه الغاية جعلت منه كائنا أخلاقيا يتمتع بالحرية والإرادة والكرامة التي تستوجب الاحترام . يقول كانط

" عندما نعتبره كشخص ، أي كذات لعقل أخلاقي عملي ، سنجده يتجاوز كل سعر " إنه فرد تجثم في داخله الإنسانية التي تستوجب التقدير والاحترام على قاعدة المساواة . لكن خاصية العقل لوحدها غير كافية لتبرير القيمة التي نعزوها إلى الإنسان ، أي أننا ملزمون باحترام القيمة المطلقة لكائنات بشرية غير عاقلة مثل الأطفال وكذا الذين يعانون من عاهات عقلية وجسمية ." البشر يمتلكون قيمة ليس لمجرد كونهم ملائمين لشيء ما . إن قيمتهم متميزة عن نفعهم ومهارتهم " طوم ريغان. إذا اقتنعنا بأن البشر يمتلك قيمة متأصلة كيف يمكن إقحام مسألة الحقوق ؟ تستند الحقوق على مبدأ القيمة المتأصلة للبشر ، وهكذا لايتم تسويغ الحقوق بالمنفعة العائدة على الشخص بقدرما تكون قيمة الفرد هي المسوغ لبناء الحق . فكل فرد يمتلك الحق في عدم الأذى . أو سلب الحياة لهذه الاعتبارات نجد المواثيق الدولية لحقوق الإنسان تأخذ بعين الاعتبار القيمة المتأصلة للإنسان وتعتبر الإبادة والحروب جرائم في حق الإنسانية .

إن جوهر القضية يدور حول مبدأ المسؤولية والواجب ؛ الحق والواجب ؛ فالحق يشير إلى مايحق للمرء التمتع به بوصفه شخصا ، ويشير المفهوم الثاني إلى ما هو مطالب به بوصفه شخصا أيضا. وهذا يحيلنا على مفهوم الحرية والعدالة .

ج- الشخص بين الضرورة والحرية

وجود الشخص ليس حالة جامدة سهل ضبطها أو اختزالها في مجرد انفعالات سلوكية أو علاقات اجتماعية أو بنية ثقافية إنه كل يتميز بالقدرة على التلفظ وخلق عوالم رمزية خاصة به نظرا لقدرته على الانفلات من قيود الاكراهات الموضوعية . ومع ذلك فالشخص يخضع لمجموعة من المؤثرات الذاتية والموضوعية ؛ تتحدد الأولى في البعد السيكولوجي ؛وتتجلى الثانية في البعد السوسيواقتصادى . لهذا ينظر إلى الشخص وكأنه بنية يتم التحكم فيها من خلال جملة من القواعد والقيم والقوانين التي تمارس عليه فعلها وتلزمه بالامتثال ؛ ولقد أشرنا في درس اللغة كيف يدخل الفرد ضمن نظام من العلاقات بمجرد ما يبدأ ممارسة فعل اللسان ؛ ونفس الشيء في المجال الاقتصادي يجد نفسه رهين القوانين الاقتصادية الخارجة عن إرادته الفردية .

ومع ذلك لازال الإنسان مقتنع بأن له هامش من الحرية يمكنه التصرف فيه ، فإذا نظرنا إلى الشخص باعتباره وعيا لذات عاقلة كما تصور ذلك ديكارت وكانط ؛ فإن هذا الوعي هو في حد ذاته خطوة جبارة نحو التحرر من خلال إدراك الحتميات للحد من تأثيرها المتواصل . إن وجود الإنسان كغاية يحيا في وضعية محددة اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا ... فإن ردود أفعاله واختياراته لا تتم وفق الشروط الموضوعية لوحدها بل يكون لاختياراته الفردية والذاتية دورا في ذلك مما يفسح المجال للحرية من هنا نفهم نظرة سارتر إلى الإنسان كمشروع محكوم عليه أن يكون حرا.

إن الإنسان كائن بيوثقافي ، وسيسوثقافي ، وسوسيوإقتصادي ... إنه باختصار كائن منتج للعلامات والرموز والخيرات ؛ ولهذا لا يمكنه بأي شكل من الأشكال أن ينفلت من الإكراهات الذاتية والخارجية ، وتجاهل هذه الشروط يجعلنا نعتقد بأن الإنسان حر في مملكته وأنه اختار بمحض إرادته ملامحه الوجدانية والذهنية والمعرفية... يقول غي روشيه إن " معظم رغبات الإنسان وحاجاته وآماله لا تتكون تلقائيا أو تبعا لنوع من الضرورة البيولوجية ، بل إنها تتحدد بحسب التشجيع الذي تلقاه والمكافآت التي تقدم لها ومن تم تنقش في الشخصية "

إن اعتقاد سبنوزا بأن الحرية وهم هو استحضاره لمبدأ الضرورة والجهل بالأسباب ، يفرغ الإنسان منن قيمته الإبداعية والخلاقة ، أي يلغي البعد الإرادي والواعي للفعل الإنساني . وهذا ماحاول سارتر إبرازه بالتركيز على أهمية الوجود الإنساني كمشروع الذي يتمتع بالحرية المشروطة بالمسؤولية.

فالإنسان أبعد عن الخطاطة التبسيطية التي تجعل من الشخص مجرد ظاهرة خاضعة للحتمية أو تتميز بالحرية المطلقة . ذلك لأن الشخص كائن عاقل واعي مبدع تتحدد هويته في التفاعل الدائم لمكونات الشخصية يلعب المحيط الخارجي بكل تنوعاته دورا في تشكلها وتكونها . أي أن الإنسان يتأرجح وجوده بين الضرورة والحرية والوعي بهذا الواقع يمكـــــــــن

الشخصية من الحد من إكراهات الذات والواقع ؛ للحافظ قدر المستطاع على إنسانيتها وتضمن هامشا من الحرية لممارسة الفعل الحر المبدع خارج اكراهات القوانين والقواعد مثال الفنان ؛ لهذا ليس للإنسان من خيار سوى الكفاح من اجل الحفاظ على حريته وكرامته بتحقيق مبدأ الديمقراطية والمساواة والإنصاف ؛ أي بناء مشروع المجتمع المدني مجتمع الحقوق والواجبات .

الغيــــــــــــــــــــــــر

ليس الإنسان من حيث هو شخص مجرد فرد معزولا ، إنه أنا تعيش إلى جانب الآخرين ، وهو في حاجة إليهم والعكس صحيح وتمثل الجماعة المكان الملائم له ؛ لكن هذا التعايش يطرح عدة إشكالات ذاتية وموضوعية . إشكالات تتعلق بالغير المخالف أو المشابه لأناه. لأن هذا الغير هو أنا أخرى قائمة بذاتها تمثل شخصا متفردا ومتميزا . وهو في حاجة إلى الاعتراف المتبادل لأن له وللغير نفس الكيان والحقوق والواجبات ؛ إنه إقرار بوجود أنا أخرى مشابهة مادام يشابهها في كثير من الصفات العامة ( الفيزيولوجية ، النفسية ، السلوكية ،...) لكنه مخالف حين يتعلق الأمر بالمؤهلات والاختيارات والرغبات والمواقف ...

ما يمكن معرفته بصورة مباشرة هو الأنا المباشرة ، أم الآخر الغير فيصعب علي تحديده أو إدراكه بصورة مباشرة لأن هذا الغير يملك من الإمكانات على التلفظ والترميز والتخفي تجعل معرفته صعبة للغاية .

فكيف يمكن معرفة الغير دون أن افقده خصوصيته ؟ هل معرفة الغير ممكنة من خلال التواصل معه ؟ ألا يؤدي التواصل إلى فقدان أحد الأطراف حريته بل وتلقائيته ؟ هل يعتبر الاختلاف الثقافي والحضاري من بين الحواجز التي تحول دون معرفة الغير ؟ ألا يعتبر التواصل والحوار وسيلة لإزالة الحواجز بين الأنا والغير للقضاء على العنف والعنصرية؟

أ‌- وجود الغير

أسست الفلسفة اليونانية مفهوم الغير على مبدأ الهوية (أرسطو) ، بحيث أن كل شئ مطابق لذاته ويكون بالقياس إلى غيره مختلف عنه ، وينتهي هذا إلى التناقض عند تقابل ألهو هو بالآخر كتقابل الوجود بالعدم أو تقابل المعاني مثل مادي لامادي حقيقي لاحقيقي ..... إن لكل شئ ضده .هذا التصور لم يتجاوز الوعي الميتافيزيقي بالذات وبالغير كوجود ، ( النظرة الانطلوجية للذات وللغير ) لهذا لم يشكل الغير في الفلسفة اليونانية مشكلا ابستيمولوجيا إلا مع الفلسفة الحديثة .

مع الفلسفة الحديثة اتخذ مفهوم الغير معنى آخر أكثر اتساعا مما كان عليه في القديم ، مع ديكارت استبعد الغير كوجود وركز على الوعي الذاتي داخل الخطاطة الثنائية وعي \جسد . أما هيغل فالوعي بالذات يتم من خلال العلاقة المابين الشخصين .

لقد أكد ديكارت من خلال تجربة الكوجيطو أن الأنا وحده موجود ، وهذه هي الخلاصة الأولية اليقينية التي توصل إليها خلال عزلته الوجودية التي استبعد فيها كل شئ حتى الغير ، لأن هذا الأخير يوضع في مصاف الأشياء الخارجة عن ذاتي ، لهذا اشترط ديكارت البداهة والوضوح العقلي كشكلين ضروريين للوصول إلى الحقيقة ، ومادام كل شئ يحيط به الشك فقط شئ واحد لا يتسرب إليه الشك هو أنا أفكر . وأي معرفة على الخارج تتم من خلال التفكير نستدل عليها بالعقل.

وهكذا بالنسبة للغير الذي وجوده في نظر ديكارت وجود افتراضي فقط ، يقول ديكارت إننا على عجز تام لتأكيد وجود الغير ، فقط بواسطة التفكير والفهم واللغة نستدل على وجود الغير ويتم هذا بالمماثلة . إذن الشيء الوحيد الذي هو متأكد من وجوده هو الأنا الفردي أو الوحدي Solipsisme .

في مقابل هذا التصور المفرط في الذاتية ؛ نجد هيغل يؤسس فلسفة للوعي يحتل فيها الغير موقعا مركزيا ، فالوعي ليس وعيا ميتافيزيقيا انه وعي ينمو ويتطور عبر الصراع من اجل الاعتراف .أي أن الوعي في تكونه يواجه وعيا آخر وخلال هذه المواجهة تنشأ العلاقة الإنسانية التي تتميز بالصراع مثال علاقة السيد بالعبد . تتميز العلاقة بين الوعيين بنوع من المجازفة لان كلاهما يسعى إلى سحب الاعتراف بالأنا غايته في ذلك الحفاظ على الحياة . إذن الغير في نظر هيغل شرط ضروري للوعي بالذات ، يقول هيغل يتعلم وعي الذات في هذه التجربة أن الحياة هي بالنسبة إليه جوهر مثل وعي الذات .

إن العزلة الوجودية أفضت بديكارت إلى إقصاء وجود الغير كذات ؛ في حين الصراع القائم بين الذوات هو دليل على وجود الغير . أي أن الوعي بالذات يقتضي الوعي بوجود الغير.

يعتبر سارتر الوجود الإنساني سابق على الماهية وأن الحرية شرط هذا الوجود ، فالأنا في التصور الوجودي هو أنا في مواجهة نظرة الغير كوجود لا تحكمها علاقة نفي كما هو الشأن مع ديكارت ولا علاقة عبودية كما تصور ذلك هيغل بل تتميز بالاعتراف المتبادل يغيب فيها عنصر الإلغاء لأن شرط وجود الأنا والغير الحرية لهذا اعتبر سارتر الوجود الإنساني مشروع . و تظهر ضرورة الآخر بالنسبة لأنا للوعي بوجود الغير .

مع دولوز يطرح السؤال من جديد وبصورة تهدم كل التصورات السابقة ؛ ماذا يمثل الغير بالنسبة للأنا ، ما يطلق عليه الأنا في نظره هو نسيج متناقض من آلاف الأنوات أي أن علاقة الأنا بالغير ليست علاقة نفي أو ضرورة بقدر ما هي علاقة تجاذب يميزها التناقض والتداخل ؛ وهكذا يصبح عالم الغير عالم الممكن وعالم الأنا عالم الممكن المتغير . فدولوز يعتقد بأن التشابه والتطابق يقتل جوهر الهوية لأن جوهر الهوية الاختلاف والانقلاب والمشاكسة ، وهكذا لا يرتسم الأنا ؛ والغير كجوهر ثابت و لا كحقيقة منسجمة .

ب – معرفة الغير هل من الممكن تحويل الغير إلى موضوع للمعرفة ؟

إن أي محاولة لإخضاع الغير لنشاط التفكير تعني تجريده من الذات والوعي والحرية أي تجميده ؛ وهنا تبدأ الإشكالية ، لأنه يفقد خصوصيته ومقوماته كوعي وكحركة وكإرادة وبالتالي يستحيل معها التواصل لأن الأنا قام بتشيئ الغير وجمد فاعليته .

يقوم سارتر بالفصل بين الأنا والغير ويحدده في الصراع القائم أولا على بين الجسم والذات ؛ وثانيا بين أنا وأنا أخرى ، فسارتر يدرك الأنا الأخرى إدراكا امبريقيا انه إدراك للجسم ، أي أن إدراك الغير تتم عبر الجسم ؛ وبهذا الشكل تنفصل الذوات عن بعضها البعض ولا تؤثر في كينونتها على بعضها البعض ؛ أي أن وجود واحدة لا يتوقف على وجود الأخرى يقول سارتر فانه لما كان لا يمكن للغير أن يؤثر في كينونتي بكينونته ، فان الكيفية الوحيدة التي يمكن أن ينكشف لي بها هي أن يتجلى لمعرفتي كموضوع . أي أن الأنا هو الذي يكون صورة ذهنية للغير ضمن حقل التجربة . وضمن هذا الحقل تنشأ العلاقة بين الأنا والغير وبمجرد ما يدخل حقل نظرتي حتى أجمده وأحوله إلى شئ ، ونفس الشيء نظرة الآخر تقيدني وتحد من حريتي وتشل تلقائيتي ، وتصبح معرفة الغير مجرد انطباع لا أقل ولا أكثر . إن سارتر اهتم بمعرفة الغير من موقع العقل القائم على مبدأ الحكم والاستدلال لهذا يقول إني أرى و أقيم حسب ما أعتقد بأن الآخرين يرونني ويحكمون علي وهنا اشعر بخيبة الأمل ؛ويزداد الجحيم كلما كانت علاقتي بالآخرين فاسدة وملتوية الجحيم هم الآخرون

هذا التصور سيتم تجاوزه مع النظرة الفينومونولوجية للغير ؛ يرى ميرلوبنتى بأن نظرة الغير لا تحولني إلى موضوع ، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع . لأن الغير عكس ما تصوره سارتر انه ذاتا تنفعل لها سلوك Comportement فالغير حالة خاصة لها حياتها يمكن من خلال الصداقة أن أشاركه مثلا الحزن . فالصورة التي أعطاها سارتر للغير باعتباره جحيما تزول بمجرد ما ينطق هذا الغير بكلمة ؛ أي بمجرد ما تدخل الذات في تواصل مع الغير تتحطم فكرة التعالي عن الأنا الآخر .

لكن هذا الغير ليس مجرد سلوك أو تصرفات يكفي أن نتواصل معه لمعرفته ؛ لأن هناك باطنا نفسيا خاصا بها لايمكن النفاذ إليه ، مثلا لا أستطيع أن أشارك الغير أحزانه مهما بذلت من مجهود كل ما أقوم به هو التعبير عن شعوري بالثأتر ؛ فالحياة النفسية للغير حياة خاصة تبدو مستحيلة عن الأنا ، وهذا ما ستعمل على إنجازه مدرسة التحليل النفسي مع فرويد ، فالغير أحيانا يكون وسيطا ضروريا لبلوغ أعماق اللاشعور مثال المحلل النفسي .

نلاحظ بأن هناك اختلاف حول السبل التي تؤدي إلى معرفة الغير ؛ لهذا يقترح دولوز تصورا مغايرا إذ يرى في الغير بنية ونظام من التفاعلات بين الذوات . فعندما تدرك الذات شيئا ما تدركه من خلال الغير ، لأن هذا الغير بمجرد ما يتكلم يضفي على الممكنات شيئا من الواقعية . إن الغير هو الوجود الممكن المغلف . واللغة هي واقع الممكن من حيث هو ممكن ، والأنا هو بسط وتفتيح للممكنات ... فان الغير بوصفه بنية هو تعبير عن عالم ممكن ، انه هو الشيء المعبر عنه مدركا بوصفه لم يوجد بعد خارج ما يعبر عنه .

خلاصة القول تعترضنا صعوبات عدة عند محاولة إخضاع الغير للمعرفة ، تتعلق من ناحية بطبيعة الموضوع الذي يتميز بالحركية والفعل والقدرة على الترميز ، ومن ناحية أخرى بأي المناهج يمكننا إجراء مقاربة موضوعية ، وهل الموضوع يقبل الموضوعية ؟

لقد جعل ديكارت من الأنا الوحدي مركز الوجود ، وأثناء خلوته التأملية أدرك بأن الأنا توجد كذات مفكرة ،والعلاقة بين الأنا والغير تتميز بالنفي ، ما عدا الأنا كل شيء مجرد افتراض عقلي فقط . ونفس الشيء سار عليه مالبرانش أثناء إجابته على سؤال جوهري يتعلق بمعرفة الغير .

إن معرفة الغير في نظر مالبرانش لا تكون بصورة يقينية بقدر ما هي مجرد تخمين ، لأن الحواس غير قادرة على إدراك هذا الغير ، وكل ما يمكن أن نكونه على الغير مجرد افتراض أو تخمين ليس إلا . إن مالبرانش بتصوره هذا يجرد الأنا والغير من واقعيتهما ويلغي إمكانية التواصل لكسر الحواجز وهكذا تكون معرفة الغير غير ممكنة .نتيجة النظرة المتعالية والميتافيزيقية للأنا والغير ؛ وتحولهما هذه النظرة إلى عالم مغلق .

هذا التصور المبالغ في الذاتية سيتم تجاوزه مع التصور الظاهراتي ( الفينومونولوجية) (ميرلوبونتي ) ، فالنزعة الذاتية التي تدعي أن معرفة الغير مجرد تخمين تسقط بمجرد ما ينشأ حوار بين الأنا والغير ؛ فالتواصل يكسر الحواجز ويحد من سلوك التعالي . وتصبح معرفة الغير ممكنة . بهذا الشكل تم تجاوز النظرة التشييئية للغير مع سارتر ، وكدا التصور الذاتي مع ديكارت ومالبرانش .

وبما أن معرفة الغير أصبحت ممكنة عبر التواصل والحوار فما طبيعة العلاقة التي تنشأ بينهما ؟

ج- العلاقة بالغير

تتعدد أوجه العلاقة بالغير وتتخذ أبعادا مختلفة بين الابن والأب ، والأم ، والأخ ، عشيقين ، بين خصم ومنافسه ، بين المعلم والتلميذ بين الضحية والجلاد ...هذه العلاقة لا تتوقف عن التغير وتأخذ أشكالا متنوعة إن لم تكن متناقضة ، إنها التعبير الواضح عن طبيعة الوضع البشري . الذي اتخذ صيغا مختلفة مثال الجحيم هم الآخرون سارتر ؛ إن أكبر عقاب لي هو أن أكون وحدي في الجنة مالبرانش... هيغل الصراع ، ديكارت نفي الآخر ، دولوز تجاذب الذوات .

يقيم الناس فيما بينهم أشكالا من العلاقات المختلفة ويستعملون الكثير من أدوات التواصل ويتصرفون حسب الوضع الذي يكونون عليه . ويكشف لنا هذا الوضع عن تعقد العلاقة التي تمتد إلى الأنانية المفرطة أو الإيثار المفرط . وتنجلي هذه العلاقة في شكل تمظهرات مختلفة : الحب الكراهية الصداقة العداوة التعصب التسامح .. وهذا يحيلنا على صورتين للعلاقة مع الغير فهو إما صديق أو غريب .

أرسطو الصداقة في نظره قيمة أخلاقية ومدنية وتجربة تعاش لايأسسها الحب بالمعنى الأفلاطوني ، لهذا يحدد ارسطو دوافع الصداقة في ما يلي ؛ فهي إما تطلب من أجل منفعة ، أو من أجل متعة ، أو من أجل الفضيلة . فالدافع الأول والثاني متغيرين لا يمثلان الأساس الحقيقي للصداقة الحقيقية ، وتبقى الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة التي تقوم على المحبة والخير والجمال كقيمة قي حد ذاتها وهذا النوع من الصداقة ناذر جدا يقول أرسطو تبدو الصداقة أيضا بوصفها تلك الرابطة التي تجمع بين الناس في المدينة ، وتشكل محط عناية المشرعين أكثر من عنايتهم بالعدالة نفسها .

إذا كان أرسطو يرى في الصداقة عنصرا مؤسسا للعلاقة مع الغير فإن كوجيف الذي يعتبر أحد مجديدي الفلسفة الهيجلية يفسر بأن العلاقة بين الذوات يطبعها الصراع المتبادل الذي لا تكون فيه العملية متكافئة لأنها تنتهي إلى هيمنة أحد الأطراف . شرط بقاء الطرفين على قيد الحياة ، لأن ما يطبع الوجود البشري هو الصراع من أجل سحب الاعتراف . وهكذا فالشخص إما عبد أو سيد .وبالتالي تاريخ الإنسانية هو تاريخ صراع .

لكن العلاقة مع الغير تبرز لنا وضعا مخالفا تماما لما تصوره أرسطو أو كوجيف ، وضعا تكون فيه العلاقة مغايرة لما تصوره أرسطو أو كوجيف . وذلك في حالة الغريب . الذي لا تربطني به أدنى علاقة .

يدل مفهوم الغريب على كل من ليس أنا ؛ بمعنى أنا أخرى مخالفا لي ثقافيا وعرقيا ودينيا أي كل ما هو مخالف لهويتي ويصبح مبدأ المواطنة في بعده الحقوقي أساسا لتحديد من هو الغريب ؛ لكن كريستيفا تعتبر هذا التحديد سطحيا لأنه يشير إلى ما هو مرتبط بالهوية إلي حالة منغلقة على ذاتها تقصي كل من ليس منها ؛ بينما واقع الأمر أننا نحمل في ذواتنا حالة من الغربة غالبا ما نغض الطرف عنها .

ومن هذا المنطلق ينشأ شعور فردي أو جمعي يدفع الأنا إلى إقصاء الغير بل والعمل على القضاء عليه ويغذي هذا الشعور وسائل الإعلام بتذويب التناقضات لصالح الأنا الفردية أو الجماعية ؛ وهكذا تكون أسطورة التفوق العرقي أو الثقافي أو القومي حالات مدمرة تلغي الآخر وتجعل مثل هذه الشعوب تكرر مأساتها وتعيش وهم التاريخ وهم التفوق وهم الشعب المختار .يقول كيوم لم تعد ثمة مواجهة رمزية تنظمها الديانة أو الطقوس أو المحرمات ، إننا أصبحنا نعيش وهم الآخر.

ينبغي أن ندرك أن الغير ضروري للأنا لأنه ينعش الفكر يقومه ، وهذا يتطلب وعي بالذات والمطالبة بقاعدة من قواعد اللعب كحد أدنى لكي يتاح لكل واحد ، في النهاية التحليل ، أن يفكر في ما يريد .

إن الموقف الذي يجب اتخاذه من الغير ليس هو موقف الإقصاء لأن هذا الغير هو إنسان قبل كل شيء وهو عنصر ثقافي لهذا لابد من فسح المجال للحوار والتسامح والاحترام والحق في الاختلاف حتى نضمن حدا أدنى من التعايش ضمن الحفاظ على استقلالية الأنا والغير .

التاريــــــــــخ

يندرج التاريخ ضمن مجال العلوم الإنسانية ، ويختص بدراسة الحادثة التاريخية و ما تحمله من دلالات إنسانية ، فالحرب العالمية الثانية حادث تاريخي أثر في مصير الناس والشعوب ونفس الشيء تدخل الكوارث الطبيعية في عداد الحوادث التاريخية لأنها بدورها تؤثر على حياة الناس .

إن نظرتنا للإنسان في واقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي ... تعكس لنا التمظهرات التي يظهر بها كذات فاعلة منتجة لوجود تاريخي واجتماعي محدد في الزمان والمكان . إنه كائن تاريخي بامتياز ينخرط في مجريات الأحداث ويجعل من التاريخ موضوعا للمعرفة من خلال توثيق وإعادة بناء الوقائع الماضية من أجل فهمها وفك رموزها الخفية ،

ما يحدث في التاريخ يحدث نتيجة التفاعلات الإنسانية والتجاذبات الحضارية من هنا كانت كل حادثة تاريخية تحمل هويتها الثقافية والاجتماعية لأن الإنسان يرتبط بالجماعة ( الغير) وبالتالي تاريخه هو جزء من تواريخ متعددة ينبغي الكشف عن تقاطعها لفهم آليات وقوعها في حينها . خاصة وأن الحادثة التاريخية فريدة لا يمكن أن تكرر مثال الثورة الفرنسية وقعت مرة واحدة ولن تكرر لأن عواملها ودوافعها ورهاناتها خاصة بها . يقول ماكس فيبر ( إن الحادثة التاريخية هي ما يحدث مرة واحدة باعتبار المعنى الذي جال في نفوس الأفراد حين اختاروا سلوكهم ذلك الذي سلكوه في سياق تلك الحوادث ). من هنا تأتي أهمية معرفة التاريخ ، لأنها تفيدنا في الكشف عن منطق التاريخ وسيرورته ، وتبيان هل الإنسان صانع لتاريخه أم خاضع له ولمعرفة رهانات الفاعل التاريخي في التاريخ .

أ – المعرفة التاريخية

تطرح مسألة المعرفة التاريخية إشكالية منهجية نظرا لطبيعة الموضوع الذي هو الماضي المنتهي الذي يحمل من الكثافة الدلالية ما لا يمكن تصوره إضافة إلى كونه واقعة متفردة في الزمان والمكان مما يجعل إمكانية تعميم التفسير غير واردة إطلاقا . فالواقعة التاريخية لا تفهم إلا إذا وضعت في سياقها الزماني والمكاني ضمن الحوادث المرتبطة بواقع المجتمع البشري المحدد ، فمن خلال ما تبقى من أثار مكتوبة أو غيرها يحاول المؤرخ بناء الحدث التاريخي بأبطاله وأناسه مبرزا ميولاتهم ورغباتهم وأهدافهم .و الغايات التي حركت تلك الجماعة نحو هدف ما . لهذا أي معرفة للتاريخ لن تكون معرفة خالصة بقدر ما تكتسي طابعا احتماليا نظرا لطبيعة الموضوع الذي يقتضي المزيد من التنقيب والتحقيق لبناء رؤية تقريبية للحدث التاريخي . هل المعرفة التاريخية معرفة علمية ؟ وكيف تصبح معرفة الماضي ممكنة ؟

اشرنا في البداية أن المعرفة التاريخية تطرح إشكالات منهجية نظرا لطبيعة الموضوع الذي يتعلق بالماضي ، إضافة إلى كون الحدث التاريخي حدث متفرد ، لهذا وضع ابن خلدون تصورا علميا لمفهوم التاريخ وميز بين ظاهره وباطنه ، فالتاريخ لا يعني سرد أو رواية الأحداث بقدر ما هو تقص علمي وعقلي للحدث ؛ إن دراسة التاريخ لا تتوقف على معرفة بالواقعة بل لا بد من

استحضار الفكر السياسي وفلسفة التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم الاقتصادية ، إن التاريخ علم مرتبط بباقي العلوم الإنسانية كالسياسية والاقتصاد والعمران وعلوم الدين والأدب والفن .

ونسجل نفس التوجه العلمي لمعرفة التاريخ ، مع مالرو الذي عرفه بأنه معرفة للماضي الإنساني ؛ انه إنشاء عقلي للحدث التاريخي بطريقة منظمة ووفق منهج صارم .وهو مختلف تماما عن الحكاية والرواية . والتاريخ بكل مكوناته ونسيبته قابل للتجزيء لأنـــــه

مجموعة من الوقائع تستدعي الوضوح واستحضار أنه ضمن التاريخ الكبير يوجد التاريخ الحقيقي تاريخ الثقافات والديانات والروحانيات ...وهي تواريخ تساهم فعليا وبقوة في تغيير العالم . وهنا يركز مالرو على ضرورة انتهاء عمل المؤرخ إلى أثر مكتوب مستبدلا ثنائية الكتابة والسرد بثنائية البناء والكتابة .

نستخلص مما سبق أن التاريخ ليس هو الحوادث التي يدونها المؤرخ لأن المهم الذي لم يدون ومالم تؤسسه بعد المعرفة التاريخية بعبارة أوضح المسكوت عنه . لكي نزيح اللثام عن الأخطاء التي يمارسها الأفراد والجماعات ؛ لأن طبيعة المعرفة التاريخية معرفة منهجية هدفها استقراء الماضي ولا تتوقف . ما علاقة التاريخ بالتطور والتقدم ؟ وما هو المنطق الذي يتبعه التاريخ ؟

ب – التاريخ وفكرة التقدم

التاريخ من حيث هو تسلسل الأحداث الماضية وفق منهجية محكمة يدفعنا إلى التساؤل عن منطق التاريخ هل يخضع لسيرورة خطية يكتنفها التكرار أم هناك انعراجات وانحرافات تجعل من الحدث متفردا لا يتكرر؟

تفرض علينا فكرة التقدم وضع صورة لمنطق التاريخ حيث يرى هيغل بأن الصيرورة تجعل التاريخ يتقدم نحو التحقق التدريجي لمبدأ الحرية وذلك من خلال الصراع القائم بين الأنوات صراع ينعدم فيه التكافؤ مثال حالة السيد والعبد ؛ وبالتالي التاريخ هو تلك الفكرة الكونية المجردة للحوادث ؛ وكأن هناك خط مرسوم داخل حركية التاريخ ، على عكس هذا التصور الستاتيكي يقول ماركس بفكرة تقدم التاريخ البشري نظرا لتقدم وسائل الإنتاج وتغيرها ، وفق منطق النفي النفي .

إن الصورة الإطلاقية والمغلقة للصيرورة التاريخية أصبحت متجاوزة لأن الفاعلية البشرية لا تخضع لخطط مطلقة ، ولا يمكن توجيهها بصورة ستاتيكية ، فالمجتمعات البشرية تعرف تحركات حلزونية نحو الأمام ولا تجعل من نموذج معين مثال يحتدى وهذا ما وضحته الدراسات الأنتربولوجية لأن الاختلاف الثقافي مسألة قائمة وتتولد عنها ممانعة لتنميط الحدث التاريخي وجعل مساره خطيا .

نلاحظ من خلال النصوص السابقة أن فكرة التقدم شكلت محورا أساسيا لفهم التحولات التاريخية التي تعرفها المجتمعات ، وأن الباحثين اتفقوا على أن السيرورة التاريخية لا تكون بصورة خطية بقدر ما تحكمها انعراجات وانحرافات ، حيث يكتسي التقدم البشري مع ماركوز وجهين مترابطين تقدم كمي وتقدم كيفي الأول يرتبط بالمعارف والمكتسبات(الثروة البشرية) والثاني يرتبط بالحرية(الحياة الإنسانية) ؛ ويجعل من التقدم التقني شرطا لكل تقدم إنساني تحميل المفهوم أهدافا إنسانية مثل الحرية الديمقراطية العدالة ... ؛ بينما يرى ستروس بأن التقدم البشري لا يتم بشكل ستاتيكي بل عبر قفزات لانتحكم فيها بالضرورة . في حين ينتقد كار فكرة التقدم القائمة على التصور الخطي للتاريخ ، ويقترح تصورا يرى في تقدم التاريخ عبارة عن فطائع وانحرافات .. نتيجة تفاعل إنساني واقعي سيوسيو ثقافي ميزته أللاستمرارية .

ج- دور الإنسان في التاريخ هل الإنسان فاعل تاريخي؟

لقد اشرنا إلى الرؤية المطلقة التي وضعها هيغل للتاريخ واعتبره نتيجة للضرورة لأنه يخضع للعقل الكوني من أجل غايات متعالية فالتاريخ هو الذي يصنع الإنسان حسب هيغل وكان الضرورة دفعت بالناس إلى صناعة الحدث . في مقابل هذا التصور السلبي لدور الإنسان في الحدث التاريخي ؛ نجد كارل ماركس يعتبر الإنسان المحور الأساسي في العملية التاريخية ، فالطبقة الاجتماعية فاعلا تاريخيا يصنع الحدث ، لكن صناعة الحدث لاتتم بطرقة ميكانيكية حرة بقدر ما هي نتيجة تفاعل طبقي اقتصادي سياسي. لأن الإنسان المشروع في المنظور السارتري فاعل تاريخي بالمعنى الوجودي والتاريخي .

يقول هيغل " ليس الإنسان سوى وسيلة في يد التاريخ فمكر هذا الأخير يجعل الإنسان يعتقد أنه صانع للتاريخ ، غير أنه لا ينفذ سوى إرادة التاريخ وفق مسار الروح المطلق " هذا التصور يلغي الفاعلية الإنسانية ويسلبها إرادتها وحريتها الذاتية ، التاريخ في نظر هيغل هو لحظة استلاب ، تعاني فيها الروح من حالة غربة . لأنه نتاج أنساق متعالية . عكس ذلك يرى التوسير بأن علاقات الإنتاج هي التي تخلق البنيات وتسند الأدوار ؛ بينما يؤكد غولدمان على دور الإنسان في صنع الحدث التاريخي ، فالناس في علاقاتهم ووعيهم وسلوكهم ينتجون الأحداث التاريخية ، أي أن الإنسان الفاعل هو الذي ينتج العلاقات الإنتاجية وبذلك يحول واقعه

المعرفــــــــــــــــــــــــة

شكلت المعرفة بمعناها الواسع موضوعا للبحث والدراسة مند القدم خاصة وأنها تمثل شكلا من أشكال الثقافة وعنصرا من عناصر الفاعلية البشرية فهي مرتبطة بالفعل الإنساني ومشروطة بقوانين التطور الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي . ويكتسب الإنسان في عملية المعرفة جملة من المفاهيم الخاصة والمبادئ التي يستعملها في نشاطه العملي والعلمي من أجل فهم الطبيعة والإنسان .

المعرفة هي تعبير واضح على تحرر الذات من الطبيعة وتحويلها موضوعا للمعرفة ، وهي نتيجة للعلاقة الجدلية بين الذات العارفة والموضوع الخارجي ، وكل هذا ما كان ليتحقق لو لم تتوفر الشروط التالية :

- ذات عارفة - موضوع تنصب عليه المعرفة - امتلاك الأدوات المعرفية

لم تعد المعرفة تكتفي بالملاحظة المدققة للواقع التجريبي ، بل أصبحت البنية العقلية تلعب دورا كبيرا في بناء المعارف وقد يكون للخيال العلمي والصدفة دورا في تطورها و لعل التغيرات الفكرية والواقعية والانتصارات العلمية التي حدثت غيرت السؤال المطروح حول المعرفة وأصبح المطلوب هو مدى صلاحية المعارف وقابليتها للتحقق ، وهذا ما حققته ابستيمولوجية القرن 20 التي توجهت إلى المعرفة بالنقد والتحليل مفاهيما ومبادءا ومناهجا لفك حالات الانحصار والجمود في العقل البشري .

ولم يقف طموح الإنسان عند هذا الحد بل تجاوزه إلى محاولة معرفة ذاته وتحويلها إلى مشروع للمعرفة العلمية مثال العلوم الإنسانية ؛

إن معرفة الواقع بكل أشكاله تتطلب الدقة والتنقيب حتى لا نسقط في الحقيقة المطلقة التي تؤدي إلى جمود العقل العلمي وهذا ما جعل الحقيقة المعرفية بمختلف أشكالها موضوعا إشكاليا بالدرجة الأولى من حيث المعايير المؤسسة لها و من حيث إمكانية تحقيق الموضوعية و من حيث قيمتها النظرية والمعرفية.

1- النظرية والتجريب

يقول دوهيم " الفكرة تفسر الظاهرة والظاهرة تبرر الفكرة " ، تنشأ الفكرة في مقابل الواقع المتنوع وبالانفصال عنه وتمكن من الكشف عن الأحداث التي تنفلت من التجربة المباشرة والآنية لأن الذكاء العلمي هو نتيجة انتقال العقل العلمي من التجربة الحسية إلى نظام مفاهيمي ؛ أي أن النظرية تعني المجموع المنظم والمتماسك الذي يدمج عددا كبيرا من الحوادث والقوانين حول بعض المبادئ ؛ أما التجريب فيعني الاختبار ، البحث، الدراسة إنه سؤال منهجي للظواهر للتحقق من فرضية أو عدة فرضيات ، باختصار النظرية هي محاولة تكوين صورة أو نموذج عقلي للواقع .وتعمل على اقتصاد المجهود الذهني وإضفاء النظام على القوانين . من هنا يمكن أن نتساءل عن علاقة النظرية بالتجربة .

أ‌- التجربة والتجريب

لا بد من التمييز بين التجربة الحسية أو الواقعية والتجريب العلمي ، في العلم التجربة تأخذ أبعادا خاصة ونقصد بها إجراءات البحث العلمي والمقصود مسائلة الظاهرة ولقد حدد كلود برناد خطوات المنهج التجريبي :

- الملاحظة العلمية : وهي مشاهدة الحوادث ومراقبتها وهي ليست ملاحظة عفوية بل موجهة وقصدية يلتزم فيها الملاحظ مبدأ الموضوعية

- الفرضية : وهي إجابة مؤقتة لتفسير الظاهرة من خلال استحضار كل الأسباب الممكنة لوقوعها ، وهي مشروع قانون ، ولصياغة الفرضية لا بد أن تكون نابعة من صلب الواقع ، وأن تكون قابلة للتحقق، خالية من التناقض

- التجريب : وهي إعادة بناء الظاهرة مخبريا ويتم التحكم فيها مما يتيح للباحث رؤية دقيقة للظاهرة مع إمكانية إعادتها إنها بتعبير آخر شكل من أشكال استنطاق الظاهرة .

- القانون : هو العلاقة الثابتة بين حادثتين أو أكثر مثلا الماء يتبخر في درجة حرارة 100 وفي ضغط جوي 76 . هنا العلاقة بين الحرارة والتبخر . هناك ثلاثة صور للقانون * التعبير على تركيب مثل الماء مكون من هيدروجين 2 أوكسجين * أو التعبير على ثوابت عديدة مثال سرعة الضوء هي 3.10 8 M/S * أو علاقة ثابتة مثال خصائص الكبريت أصفر يبقى أصفر في درجة حرارة 120

هذه هي خطوات المنهج التجريبي كما حددها كلود برنار. لكن هل جميع الحوادث قابلة للفحص وفق المنهج التجريبي ؟

إن واقع المادة تغير ولم تعد المادة في شكلها الماكرسكوبي ، بل أصبحت واقع متناهي الصغر ، وانتقلنا من عالم الكتلة إلى عالم الطاقة ؛ والانتقال إلى عالم الميكروفيزياء وعالم الفضاء والذرة خلق أزمة على مستوى المنهج وبالتالي ضرورة تغيير نظرتنا إلى العالم ، هذا يعني الانتقال من الفيزياء الميكانيكية مع نيوتن إلى فيزياء نسبية مع اينشتين وظهرت نظرية الكوانتوم مع ماكس بلانك وفتح كل هذا التغير أفاقا جديدة في العلم بعيدا عن الرؤية التجريبية الضيقة

التي جعلت مهمة النظرية تقتصرعلى الوصف واستخلاص القانون . وتكون التجربة هي معيار صدق النظرية أو العكس ، وبالتالي يصبح العقل سجين التجربة مهمته تسجيل نتائجها . أما العقلانية الجديدة لم تحصر وظيفة النظرية في الوصف لأن الواقع المدروس غير قابل للوصف لصغره بل أصبح التجريب بناء عقلي ذهني إبداعي مجرد افتراضات مفتوحة على الممكن ؛ بهذا الشكل حلت النزعة الرمزية الرياضية محل النزعة التجريبية الحسية .

لم تعد التجربة في شكلها التقليدي مواكبة للتطورات الحاصلة على مستوى التصور العلمي للواقع ، بقدر ما أضحت عائقا أمام أي اكتشاف لأنها ظلت رهينة الواقع الساكن الميكانيكي ، أما التجريب في نظر كوري فهو المساءلة المنهجية للطبيعة بهذا الشكل يميز كويري بين التجربة في صورتها الخام والتجريب المنظم . ونفس الشيء قام به توم الذي يرى بأن العلم الكلاسيكي يعتمد التكرار كأساس لبناء التجربة هدفها التحقق من صلاحية الفرضية اختباريا ، بينما التجريب المعاصر تجريب ذهني بالدرجة الأولى يبنى في العقل وهذا هو الشكل الإبداعي للتجريب المعاصر إنه تجريب مفتوح على الممكن . يقول روني توم" لا يشكل التجريب العلمي في معناه التقليدي مقوما وحيدا في تفسير الظواهر ، بل لا بد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب . إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع غنى"

هذا التصور المعاصر جاء منسجما مع التطورات المعرفية والتكنولوجية التي عرفتها البشرية ، التي أجبرت العقل على التحرر من النظرة الستاتيكية للمادة كما هو الشأن مع كلود برنار .

ب – العقلانية العلمية لم يعد مجال للعقلانية المطلقة أو الواقعية المطلقة بل حل محلها نموذج جديد من العقلانية المطبقة يقول باشلار " هذه العقلانية الفعالة تتعارض مع الفلسفة التجريبية التي تنظر إلى الفكرة كما لو كانت تلخيصا للتجربة وذلك بالفصل بين

التجربة وكل قابليات التهيء " عقلانية أصبحت أكثر انفتاحا على الممكن . ترفض الصرامة المنطقية للعقلانية الديكارتية التي تعتبر العقل وحده مصدر المعرفة ، وترفض أن تكون المعرفة مجرد انعكاس للواقع الحسي كما تصور ذلك

التجريبيون ، إنها عقلانية تقيم حوارا بين العقل والتجربة يقول باشلار " إن العقلانية العلمية المعاصرة هي عقلانية فلسفية مطبقة تقوم على يقين مزدوج يوجه النشاط العلمي التجريبي ويجعله مشروطا بحوار جدلي بين ما هو عقلي وما هو واقعي ". تأخذ المعلومات وتحولها إلى برامج ومعادلات رياضية . ظهور عقلانية معاصرة تمثل رؤية جديدة تحاول استيعاب مظاهر جديدة ،انفتحت على التحولات التي وقعت في الرياضيات والهندسة الفراغية ، وأصبح المنهج الأكسيومي الموجه للبحث العلمي .

لقد أقر باشلار بأنه لا مجال للعقلانية المطلقة ، والواقعية المطلقة ، واقترح نموذجا جديدا للعقل أطلق عليه اسم العقلانية المطبقة يقول باشلار " هذه العقلانية الفعالة تتعارض مع الفلسفة التجريبية التي تنظر إلى الفكرة كما لو كانت تلخيصا للتجربة " عقلانية أصبحت أكثر انفتاحا وتقبل أن يعاد النظر في المبادئ والأسس بحثا عن العوائق والأخطاء. وهذا ما أكده أيضا بلانشي حين أشار بأن العقلانية التي يدعوا إليها متحررة من المسلمات منفتحة على الممكن . ونفس الشيء لم تعد العقلانية التجريبية تؤسس المعرفة العلمية بل المعقولية لأنها تقتضي استخدام العقل على المادة .

كيف نحدد علمية النظرية ؟

ج – معايير علمية النظريات

لقد اعتقد العقلانيون القدماء بأن العقل هو معيار الحقيقة العلمية لهذا كان ديكارت يشترط البداهة والوضوح العقلي ، وأسس كانط موضوعية تجمع بين العقلي والحسي أما التجريبيون رؤوا بأن التجربة هي مصدر الحقيقة و النظرية ومجال التحقق من صلاحيتها ، ها التصور بدأ مع علماء الفزياء القدماء إلى الفيزياء الحديثة مع نيوتن ، لكن الوقائع المعرفية الجديدة أجبرت العقل على إعادة النظر في التصورات القديمة والحديثة ، لأن التجريدات العلمية الصحيحة كلها تعكس الطبيعة ، فمن التأمل الحسي إلى الفكر المجرد ومن الفكر المجرد إلى الممارسة العلمية ، ذلك هو مسار المعرفة العلمية . لم يعد الواقع كما كان يدركه القدماء والكلاسيكيون واقعا مجسما أو جوهرا مطلقا بل أصبح أكثر تعقيدا أكثر صغرا مما جعل المبادئ السابقة غير قادرة على استيعاب هذا الواقع وبالتالي لم يعد للقانون نفس الدقة والإطلاقية لقد أصبح القانون يحمل طابعا احتماليا .

فالنظريات العلمية المعاصرة أصبحت مجرد إنشاءات عقلية حرة قابلة لأن تجدد إلى ما لا نهاية . أي أن تاريخ العلم أصبح تاريخ تصحيح أخطاء ( باشلار). وأن علمية النظرية تتحدد في قابليتها للتكذيب على حد قول بوبر . يقول بوبر" إن النظرية العلمية التجريبية الأصلية هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها ، وتخضع بصفة قبلية ، فروضها لمعيار القابلية للتنفيذ أو التكذيب ".

نص كارل بوبر : معايير علمية النظرية

يبدأ بوبر بتحديد مراحل التحقق العلمي من النظرية

  • المقارنة المنطقية للتحقق من تماسك النسق النظري
  • البحث في الصورة المنطقية لتحديد طبيعة النظرية هل هي علمية أم تحصيلية
  • المقارنة بين النظرية رهن البحث وأخرى لمعرفة ما إذا كانت ستشكل تقدما معرفيا
  • اختبار صحة النظرية بالقيام بتطبيقات تجريبية

التنبؤ أوالتوقعات تأتي كنتيجة للممارسة

تتلخص معايير علمية النظرية في : - الاتساق المنطقي - التحقق التجريبي - قابلية التكذيب

مسألــة العلميــــــة في العلوم الإنسانيـــــة

إذا كانت العلوم الطبيعية ( فيزياء بيولوجية ...)حققت انفصالها عن الفلسفة في وقت مبكر وحققت الدقة والوضوح الذي أدى إلى تفسير الظواهر الطبيعية تفسيرا علميا . تكون هذه العلوم تجاوزت نسبيا عوائقها الإبستيمولوجية ؛ فإن العلوم الإنسانية عرفت تعثرا في نشأتها ؛ لأن مجالها الإنسان في حركيته وكشخص متميز ، وكأنا لها علاقات مع الغير ، وكفعالية تاريخية ومعرفية ، الإنسان أثناء ممارسته العملية والفكرية ، الإنسان وهو يصنع الحضارات ، والمعتقدات ، والمؤسسات ، أسلوبه في الإنتاج ، كيفية توزعه على الأرض . باختصار الظاهرة الإنسانية في كل أبعادها (اجتماعية ، نفسية ،تاريخية ، لسنية ، رمزية، اقتصادية ، دينية أخلاقية ....) هذا التعدد في الأبعاد يجعل معرفة الإنسان صعبة ومعقدة ، إضافة إلى أن الموضوع هو في نفس الوقت الذات الدارسة مما يطرح منذ البداية عدة صعوبات ابستيمولوجية . تتعلق بعلمية العلوم الإنسانية وإلى أي حد يمكن تحقيق الموضوعية . هل من الممكن تطبيق مناهج العلوم الحقة على الظاهرة الإنسانية ؟ هل تقبل الظاهرة الإنسانية التفسير والفهم ؟ قبل الإجابة على هذه الأسئلة لابد من الإشارة إلى أن العلوم الإنسانية ما كان لها أن تستقل بموضوعها إلا بالتخلص من النظرة النسقية للإنسان مثال فلسفة التاريخ مع هيغل. و التخلص من النظرة الميتافيزيقية التي اختزلت الإنسان في العقل نموذج ديكارت ... وقد ساعدت الظروف الفكرية والواقعية في القرن 19 على نضج العلوم الإنسانية بانتصارها على عوائقها ملتمسة من المشروع الوضعي الأداة الضرورية لدراسة الظاهرة .

1- الموضوعية في العلوم الإنسانية هل موضعة الظاهرة الإنسانية ممكنة ؟

لقد اصطدمت مسألة موضعة الظاهرة بعدة صعوبات تتعلق بالموضوع وبالمنهج ؛ من ناحية الموضوع يقول بياجي " إن الصعوبة الإبستيمولوجية المركزية في العلوم الإنسانية تكمن في كون هذا الأخير ذاتا وموضوعا في آن واحد . تمتد إلى أن هذا الموضوع بدوره ذاتا واعية قادرة على التلفظ والترميز المتعدد وهذا ما يجعل الموضوعية وشروطها الأولية للتجرد من مركزية الذات تعترضها صعوبات شائكة وتبقى دوما محدودة ".

هذا ما جعل كل محاولة لموضعة الظاهرة لاتأخذ بعين الاعتبار خصوصية الظاهرة تسقط في المغالطات وتجعل من المعرفة الإنسانية معرفة غير ممكنة وبالتالي الحديث عن موضوعية مطلقة غير مقبول ؛ كما من غير الممكن الحديث عن القانون في هذه العلوم مثل ما هو الشأن في العلوم التطبيقية . إن مسألة العلمية تطرح عدة إشكالات لابد من استحضارها عند الدراسة مثل إمكانية التعميم ، والتفسير ،

إن التوجه الوضعي الذي جعل من المنهاج التجريبي نموذجا لدراسة الظاهرة الإنسانية واجهته انتقادات كثيرة تتعلق بتداخل الذات بالموضوع ؛ عكس ما هو عليه الشأن في العلوم الحقة ، وهذا ما حاول غولدمان الإشارة إليه من خلال المقارنة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية ؛ ففي الأولى هناك اتفاق ضمني حول طبيعة وقيمة البحث ، بينما الأمر يبقى صعبا نظرا لاصطدام البحث بالمصالح وقيم المجتمع واختلاف المواقف ، ولم يعد مطلب نزاهة العالم كافيا لتحقيق الموضوعية ، لأن العالم يواجه الظاهرة الإنسانية وهو يحمل في ذاته تصورات أولية وقناعات مسبقة تحول دون تحقيق الحياد المطلوب لتحقيق الدقة العلمية ؛ وهذا ما أكدته بوفريس التي قالت بأن الموضوعية في العلوم الإنسانية تصطدم بطبيعة الظواهر الإنسانية ، فالمعرفة التي يكونها الإنسان عن نفسه تكون في غالب الأحيان مشبعة بالذاتية والأحكام المسبقة . مما يجعل الموضوعية مسألة صعبة للغاية ؛ وبالتالي التأثير على مسألة التفسير والفهم .

2 – إشكالية التفسير والفهم في العلوم الطبيعية إمكانية الموضوعية ممكنة ، وبالتالي التفسير والفهم ممكن ؛ بينما الواقع في العلوم الإنسانية يختلف نظرا لطبيعة الظاهرة الإنسانية التي تتميز بالحركية والتغير يقول جان بياجي " إن وضعية العلوم الإنسانية لأشد تعقيدا ، لكون الذات التي تلاحظ أو تجرب على نفسها أو على الذوات الأخرى ...قد يلحقها تغيير.." يمكن القول إن التنبؤ شكل النواة الصلبة لعقلنة الطبيعة وفهمها .

لكن الأمر في العلوم الإنسانية يختلف لأن الظاهرة المدروسة لا يمكن تعريفها بصورة نهائية تجعل مسألة التفسير والتنبؤ ممكنة .

فإذا ما حاولنا تفسير الظاهرة فقدنا إمكانية تحديدها بصورة دقيقة ، وهكذا تعيش هذه العلوم مشكلة ابستيمولوجية تجعلها تكون بين التفسير والتنبؤ عل حد تعبير شتروس بينما يرى دلتاي أن الظاهرة الإنسانية تفهم ولا تفسر لأنها شمولية متعددة الأبعاد وبالتالي الفهم والتأويل يمكن من النفاذ إلى عمق الظاهرة . إن المشكلة المطروحة تتعلق في الواقع بمسألة نموذج العلوم الطبيعية ومدى قابليته للتطبيق على العلوم الإنسانية .

يتبين أن مشكلة الفهم والتفسير اتخذت بعدا ابستيميا في العلوم الإنسانية ، نظرا لطبيعة الظاهرة المدروسة والتي تتعلق بالإنسان في حركيته وبعده الرمزي والدلالي ، لهذا يرى غرانجي محدودية الفهم لأنه يعيق العقل في عمله ؛ بينما يركز مونرو على أهمية الفهم لأنه يمكننا من استخلاص المعاني والدلالات بفضل التأويل . إذا كانت العلوم الحقة حققت تقدما بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ ، بينما الوضع في العلوم الإنسانية مخالف تماما لأن الظاهرة تحمل من العمق الدلالي والرمزي ما يجعل مسألة التفسير والتنبؤ غير ممكنة ، ويفرض على الباحث منهجا يلائم طبيعة الموضوع منهج يقوم على الفهم . إذن ما هو النموذج العلمي في العلوم الإنسانية ؟

1- نموذجية العلوم الإنسانية

إن الوضع الإبستيمولوجي الذي تعرفه العلوم الإنسانية فرض عليها التفكير بجدية في نموذج منهجي ينسجم وطبيعة الظاهرة . وتبني المنهاج التجريبي كنموذج يطرح عدة إشكالات تجعل من الملاحظة مسألة صعبة للغاية نظرا للحركية التي تعرفها الظاهرة إضافة إلى بعدها الرمزي ، وهذا ما دفع بميرلوبنتي بالتشكيك في قدرة المنهج التجريبي على النفاذ إلى عمق الظاهرة ؛ لأن أي محاولة لعزل الظاهرة يؤدي إلى تجميدها وفقدانها خصوصيتها . إن محاولة بناء نموذج علمي اصطدمت بعوائق منهجية وابستيمولوجية وإيديولوجية ؛ جعلت من الموضوعية مسألة صعبة .ويمكن تلخيص بعض العوائق على الشكل التالي :

- التجزيء عائق ابستيمولوجي : الظاهرة الإنسانية معقدة ومتعددة الأبعاد فهي نفسية اجتماعية ثقافية دينية ... فلا نستطيع فهم مثلا ظاهرة البطالة دون ربطها بالنظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والتاريخي والنفسي ...

- الإيديولوجيا عائق ابستيملوجي : المجتمع الطبقي يعرف نوعا من الصراع المطبوع بالبعد الإيديولوجي الذي يؤدي إلى تنوع التصورات والتوجهات والاختيارات التي تؤثر على البحث وتوجهه .

- النزعة التجريبية عائق ابستيمولوجي : الانسياق وراء الظاهرة الملموسة والملاحظة المباشرة يشكل عائقا ابستيمولوجيا غالبا ما يؤدي إلى عدم الوصول إلى البنية الخفية للظاهرة .

إن المعرفة الموضوعية اهتمت بالإنسان في بعده الواقعي ولكنها أهملت الجانب الرمزي لوجوده ؛ الجانب المتعلق بالخفي ، لأن الظاهرة الإنسانية تحمل من الكثافة الرمزية ما يحتاج إلى دراسات متنوعة لفهمها . و تبقى الموضوعية محدودة على حد تعبير جان بياجي .

لقد شكلت مسألة الموضوعية مشكلا ابستيمولوجيا مركزيا جعل بعض الباحثين يطالبون بتحديد أداة جديدة للبحث تتلاءم والظاهرة الإنسانية - مستحضرة أثناء البحث الفعل الإنساني - أداة تتميز بالدينامية وحرية إعادة بناء الظاهرة .

ورغم كل المحاولات لتحقيق علمية العلوم الإنسانية تبقى هناك عوائق أمام أي محاولة لتحقيق الموضوعية ، عوائق تتعلق بالذات الدارسة ، وعوائق تتعلق بطبيعة الموضوع المتعدد الأبعاد والغير قابل للتحديد بصورة نهائية ومطلقة . من هنا تبقى مسألة القانون والتنبؤ غي ممكنين وبالتالي الحديث عن مبدأ الحتمية حديث فيه كثير من الوهم والخداع . وكل ما يبقى هو مقاربة الظاهرة وبناء تصور يجعل من الفهم منهجا ممكنا للدراسة يقول بول لا زاز فيلد " من الصعب إدراك تغير الأفكار عن الخير والشر من ثقافة إلى أخرى فالعادات يمكن أن تكون لها وظيفة مغايرة لما يعطيه لها الناس الذين يمارسونها وأن نفس الشخص يتغير سلوكه من جماعة إلى أخرى من رب أسرة إلى عضو في جماعة .. إن وصف السلوك البشري في تعدديته من جماعة إلى أخرى تعد من المهام الصعبة ".

ما هي المواضيع التي تتناولها العلوم الإنسانية ؟

نموذج السوسيولوجيا

1- موضوع علم الاجتماع

موضوع علم الاجتماع الظاهرة الاجتماعية ، أي دراسة الإنسان كفاعلية اجتماعية وكمكون أساسي في بنية المجتمع بمختلف مؤسساته الإدارية والصناعية والقانونية والأخلاقية والدينية ....وظهرت فروع في علم الاجتماع مثل علم الاجتماع الديني وعلم الاجتماع التربوي ... وواكب هذا التنوع ظهور مدارس في علم الاجتماع . صاحبتها عدة مشاكل نظرية ومنهجية نظرا لطبيعة الظاهرة المدروسة المتسمة بالتعقد وتداخل أبعادها وحضور الوعي .

لقد ارتبط ميلاد علم الاجتماع باوغوست كونت الذي حاول بناء تصور لعلم الاجتماع مستلهما من المنهج التجريبي أدوات تفسير الظاهرة الاجتماعية وكان يطلق عليه إسم " الفيزياء الاجتماعية " .ونظرا لتعقد الظاهرة وحمولاتها الدلالية والإنسانية لم ينجح التصور الوضعي في وضع أسس علمية للدراسة مما أدى إلى ظهور عدة اتجاهات نظرية مثل الاتجاه التفهمي ،الاتجاه البنيوي

.الاتجاه الوظيفي . هذا التنوع في المناهج يشير إلى تنوع الموضوع والعوائق التي تعترض إمكانية تحقيق الموضوعية . عوائق تتعلق بالذات وبالموضوع وبالبعد الإيديولوجي .

موضوع علم الاجتماع : الواقعة الاجتماعية

" نظام من الوقائع المتميز بخصائص محددة تتمثل في طرق للسلوك والتفكير والإحساس ، توجد خارجة عن الفرد ولها طابع إكراهي يجعلها تفرض نفسها عليه ... وتشكل نوعا جديدا من الوقائع تستحق وحدها أن توصف بالوقائع الاجتماعية ... نصل إذن إلى تحديد دقيق لموضوع علم الاجتماع الذي هو الواقعة الاجتماعية التي تتميز بإكراهها الخارجي الذي تمارسه على الأفراد والذي يتجلى في وجود عقوبات تواجه كل من حاول خرقها أو تجاوزها أو في مقاومته لكل محاولة فردية للخروج عنه ...

الواقعة الاجتماعية هي كل طريقة في الفعل ، ثابتة أولا ، وقادرة على ممارسة إكراه خارجي على الفرد ، ثانيا ، وتكون عامة في المجتمع ومستقلة عن كل مظاهرها الفردية ." دوركايهم

صعوبة تحديد الموضوع

يقول غولدمان " يطلب دوركايم من عالم الاجتماع أن يدرس الوقائع الاجتماعية بوصفها "أشياء" ومن "الخارج " ، ولكنه لا يتساءل أبدا عما إذا كان الأمر ممكنا من الناحية الإبستيمولوجية . ....

فتشبيه الثوري بالمجرم في التعريف الدوركايمي تنسي القارئ حقيقة الثوري ... فعوض الإجماع الضمني أو الصريح لحكم القيمة حول قيمة المعرفة المطابقة للوقائع والتي هي أساس العلوم الفيزيائية والكيميائية ، نجد ، في حالة العلوم الإنسانية ، اختلافات جذرية في الموقف . لهذا فالموضوعية في العلوم الإنسانية ليست مسألة مهارات فردية ....والنزاهة الفكرية وخصال أخرى تميز الباحث في العلوم الإنسانية . لا يكفي ، كما اعتقد دوركايم في ذلك تطبيق المنهج الديكارتي ( الشك المنهجي للتخلص من الأحكام ) والشك في المفاهيم المكتسبة والانفتاح على الوقائع لأن الباحث غالبا ما يقارب الوقائع من خلال مقولات ومفاهيم قبلية لا واعية تسد مسبقا طريق الفهم الموضوعي "

يرى دوركايم بأن مسألة الموضوع في العلو م الإنسانية محلولة ما دامت الوقائع قابلة للملاحظة بل وللعزل ، وكأنها أشياء مثلها مثل الوقائع الطبيعية . والواقعة الاجتماعية في نظره تتميز بأنها خارج الفرد وتمارس إكراهها وتتميز بالعمومية . إذا كان دوركايم أصاب في تحديد موضوع علم الاجتماع حين حدده في الوقائع الاجتماعية فإنه أخطأ حين تعامل معها كأشياء . وكأنها جامدة خالية من أية دلالة .

هذا ما حاول توضيحه غولدمان من خلال الإشارة إلى صعوبة تحديد الموضوع في علم الاجتماع نظرا لطبيعة الظاهرة . فإذا كان الإجماع في العلوم الطبيعية ممكنا ؛ فإنه على العكس من ذلك هناك اختلافات جوهرية في المواقف ولم يعد الأمر يتعلق بمصداقية ونزاهة الباحث . فالعوائق الإبستيمولوجية تحول دون موضعة الظاهرة نظرا للحمولة الرمزية التي تتميز بها ونظرا لحركيتها .

باختصار يعاني علم الاجتماع من صعوبة تحقيق الموضوعية والتخلص من القبليات والأحكام المسبقة ، وكل ما بقي للباحث سوى الحذر ومحاولة الفهم ضمن حدود معايير العلمية التي يضمنها منهج أكثر صرامة ودقة .

2-إشكالية المنهج في علم الاجتماع

إن مسألة الفهم والتفسير في العلوم الاجتماعية واجهتها صعوبات شكلت عائقا ابستيمولوجيا ؛ أدت إلى ظهور عدة نظريات منها : النظرية الوضعية التي أخذت بفكرة التفسير العلي والسببي للظاهرة نموذج دوركايهم تعامل مع الظاهرة كشيء قابل للملاحظة والعزل . النظرية التفهمية أخذت بمبدأ الفهم كمحرك لألية البحث لكون الظاهرة لها من الدلالة الرمزية ما يجعلها لا تعبر فقط على ما هو ظاهر بقدر ما هناك محركات داخلية ترتبط بمقاصد الفاعلين ، نموذج ماكس فيبر . النظرية الوظيفية عملت على دراسة الواقعة الاجتماعية من خلال الوظيفة التي تقوم بها داخل نسق محدد ، نموذج تالكوت بارسنز

إذن يرتبط المنهج في علم الاجتماع بالنظرية التي تؤطره ؛ وإن اتفق علماء الاجتماع حول الموضوع فإنهم اختلفوا على مستوى النظرية . يلح دوركايهم على ضرورة التخلي عن التصورات المسبقة لتحقيق الموضوعية والتعامل مع الظواهر باعتبارها ظواهر مستقلة خارجة عن الفرد تمارس قهرها . هذا التصور يجرد الظاهرة من حركيتها ورمزيتها ويفسر الظاهرة تفسيرا عليا . في حين رفض ماكس فيبر كل محاولة لتشييئ الظاهرة فالملاحظة ممكنة في العلوم الطبيعية بينما في العلوم الاجتماعية علينا أن نفهم أفعال ونوايا الفاعلين بمعنى البعد ألتأولي للظاهرة وارد نظرا لما تحمله من كثافة رمزية. بينما تؤكد المدرسة الوظيفية على أهمية الدور؛ وأن محاولة فهم الظواهر يجب أن تتم من خلال التحليل الوظيفي داخل النسق .

إن مسألة العلمية في العلوم الإجتماعية تطرح إشكالات منهجية ؛ تتطلب من الباحث التخلي عن مواقفه الشخصية ، والتزام الموضوعية . رغم أن الظواهر تمس حياتنا اليومية وقناعاتنا وقيمنا مما يجعل البعد الإيديولوجي حاضرا أثناء البحث ؛ وحين نقول البعد الإيديولوجي نقول رهانات البحث السوسيولوجي .

مفهـــــــوم الحقيقــــــــــــة

شكلت المعرفة في كل أبعادها عنصرا من عناصر الفاعلية البشرية ، وأثناء الفعل الإنساني يكتسب الإنسان جملة من المفاهيم الخاصة والمبادئ التي يستعملها في نشاطه العلمي والعملي وتكون هذه المعارف بمثابة حقائق يؤسسها ويعتقد بقيمتها الواقعية والمعيارية ؛ إلا أن هذه الحقائق تعترضها إشكالات ابستيمولوجية تتعلق بالذات العارفة ، وبتغير شروط بناءها ، وهذا ما يجعل الحقيقة موضع تساؤل وبحث .

كيف يكون الخطاب الفلسفي أو العلمي أو الأخلاقي قادرا على تأسيس الحقيقة ؟ ولماذا تعتبر الحقيقة أساسية في العلاقات التي يقيمها الفرد مع الآخر؟ هل الحقيقة ذات طابع كوني ؟

إن الحقيقة لا تتجلى في مجرد نقل الواقع لكن في معالجته وحمله إلى مستوى العقل لتكوين حكم أو بناء معرفة ، وتختلف الحقيقة باختلاف مجالات الفكر والقول خاصة وأنها لا تظهر إلا معبر عنها مما يطرح مشكلة الحقيقة واللغة . وبالتالي اختلاف معايير بناءها .

و الحديث عن الحقيقة يثير إشكالات معرفية ومنهجية تتعلق بأي المعايير تؤسسها وتشحنها بصفة الواقعية والكونية ؟ ألم يقل ديكارت إن الحواس كثيرا ما توقعنا في الخطأ وأسس شكا منهجيا للعقل ! ألم يقل كانط إن معرفتنا لا ترتكز على الأشياء فقط بل بالعكس الأشياء هي التي تتكيف مع المعرفة بخضوعها لمقولات الفهم ، وأسس نقدا للعقل ! الم يشر باشلار إلى أن العقل لا يبقى منغلقا بل تجبره العوائق والأزمات على الانفتاح وتجعل خط تطور المعرفة يتغير وتتغير معه الحقيقة لهذا عوض أن يعرف الحقيقة بأنها مطابقة الفكر لذاته أو مطابقة الفكر للواقع فضل القول ( إن تاريخ الحقيقة هو تاريخ خطأ يتم تصحيحه باستمرار ).

إضافة إلى هذه الإشكالات تظهر مشاكل أخرى حين نستحضر القيم الإنسانية والتقاليد والمعتقدات ... إشكالات تتعلق بقيمة وطبيعة وصلاحية الحقيقة ؛ لأن البحث عن الحقيقة لا ينفصل عن الإكراهات الذاتية والفكرية والتاريخية " لافيل".

أ‌- الرأي والحقيقة

يقول باشلار " إن العلم في تطلعه إلى الكمال يتعارض مطلقا مع الرأي السائد . ذلك أن الرأي يسيء التفكير بل هو لا يفكر لأنه يعبر عن حاجات ضانا أنها معارف ومن هنا لزم تحطيمه منذ البدء لأنه العائق الأول الذي يجب تجاوزه "

الحقيقة ليست خاصية الأشياء و لا تنكشف من تلقاء نفسها ، بقدر ما هي حكم نطلقه عن علاقة موضوعية أو إدراك عقلي ، أي أن الحقيقة لا توجد خارج الفكر واللغة ولهذا فهي تتعدد بتعدد أنواع الخطاب والقول وبتعدد أشكال الإثبات والبناء مثال : الخطاب العلمي تقابله الحقيقة العلمية ، الخطاب الديني تقابله الحقيقة الدينية .... وما يكسب الحقيقة قوة هو أنها تنشأ داخل المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي يمنحها شحنة وقوة ، وطبعا لكل مجتمع آلياته وهيئاته التي تسهر على التمييز بين المنطوقات الصحيحة والغيـــــــر الصحيحة . وهنا يكون للرأي دور في تشكل الحقيقة ؛ لقد أشار نيتشه إلى الدوافع التي تجعل الإنسان يميل إلى الوهم هو جنوحه إلى السلم ورغبته في تجنب الحرب " الخوف من الموت " وما يساعده على ذلك ما توفره له اللغة من إمكانات لا محدودة للإخفــــــاء والإضمار . لهذا اعتبرت الأحكام المسبقة عائقا أمام الحقيقة وكذلك الوهم الذي هو أخطر من الخطأ لصعوبة اكتشافه . يقول باشلار " إن العلم يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا لا نفهمها ، وحول أسئلة لا نحسن صياغتها بوضوح ، إذ ينبغي قبل كل شيء أن نعرف كيف نطرح المشاكل ... فإن المشاكل لا تطرح تلقائيا " .

إن الاعتقاد بأن الرأي لا يؤهل إلى الحقيقة وارد في الفكر الفلسفي القديم والحديث والمعاصر ؛ فديكارت تخلى عن وهم الحواس ، وكانط جعل الواقع يتكيف مع مقولات الفهم ؛ يقول كانط " لا أستطيع أن أكون رأيا بالصدفة ما لم تكن لدي معرفة مبنية على حكم تربطه بالحقيقة صلة و لو كانت غير مكتملة ، فهذا شيء أكثر أهمية من تكوين وهم اعتباطي " فالقانون اليقيني في نظر كانط هو شرط لبناء الحقيقة وهو مسألة قبلية .

ما نستنتجه من هذه المقدمة أنه لا يكفي أن يمتلك الشخص رأيا لكي يبني الحقيقة ، لأن الحقيقة حسب تصور باشلار تبدأ بالقطع مع الانطباع والاعتقاد حيث يتيه تفكيرنا في الوهم يقول باشلار " إن الرأي يفكر دائما بصورة سيئة إنه لا يفكر إنه يترجم الحاجات إلى معارف وهو إذ يشير إلى الأشياء وفقا لمنفعتها إنما يحرم نفسه من معرفتها ".

خلاصة

ألم يقل ديكارت إن الحواس كثيرا ما توقعنا في الخطأ وأسس شكا منهجيا للعقل ! لقد شك ديكارت في صلاحية وقيمة الحواس ، واعتبر الواقع الحسي هو مجال الوهم والخداع وبالتالي الحقيقة التي تبنى انطلاقا منه وهمية مشكوك فيها ؛ وهكذا تخلص من دور الحواس ، وأبقى على دور العقل كملكة فطرية وكمستودع لمقولات قبلية وبالتالي الرأي فقد قيمته لأنه لا يستمــــــــد مشروعيته مما هو قبلي . فاليقين يقتضي بداهة ووضوحا عقلي وهذا لا يتوفر في الرأي الذي هو مجرد "انطباع " .

إذا كانت العقلانية الكلاسيكية مع ديكارت تدعو إلى تقويض الرأي فإن العقلانية المعاصرة مع باشلار اعتبرت الرأي عائــــــــق ابستيمولوجي أمام المعرفة ككل . فالمعرفة في نظر باشلار لا تنشأ مما هو قبلي ،ولا انطلاقا من اعتقادات شائعة ؛ بل المعرفة تنشأ بعناء وبالتخلص من الأفكار الشائعة . العلم يتعارض والرأي ، لأن هذا الأخير تفكير ناقص لا يمكننا من معرفة حقيقة الأشياء يقول باشلار - إن الروح العلمية تمنع أن يكون لنا رأي لأن لاشيء معطى كل شيء يبنى ، كما لا مكان للبداهة واليقين المطلق –

ما نستنتجه هو أن الرأي يتعارض ومفهوم الحقيقة بل ويحول دون الوصول إليها . لهذا يحق لنا التساؤل عن المعايير المؤسسة للحقيقة .

أ‌- معايير الحقيقة

أي المعايير تؤسس الحقيقة وتعطيها قيمة وقوة ؟ العقل أم الواقع أم الوجدان؟

هل يكفي القول بأن الحقيقة تتحدد في مطابقة العقل لذاته أم للواقع ؟ أشرنا في بداية الدرس بأن الحقيقة هي حكم عقلي أو حكم معرفي وبالتالي تختلف باختلاف مجالات الفكر والقول ، و تكون معاييرها مختلفة . لقد اشترط ديكارت البداهــــــة والوضوح العقلي كأساس للحقيقة . ما دام العقل يمتلك هذا الوضوح ، يمتلك قواعد تقيه من الوقوع في الخطأ ( قواعد المنهج الرياضي )- مطابقة العقل لذاته - . واشترط هيوم التجربة كأساس لبناء الحقيقة ، أي مطابقة العقل للواقع . ولأن العقل في نظر التجريبيين صفحة بيضاء . بالتالي كل الحقائق مصدرها الواقع التجريبي .

سواء مع العقلانيين أو التجريبيين ظل مفهوم المطابقة هو المؤطر لمفهوم الحقيقة . مما دفع بهيدجر إلى رفض هذا المفهوم لأنه يشل حركة العقل و لايتيح الفرصة للأشياء كي تنكشف وتلعن عن نفسها ، فالحقيقة عنده مرادفة للحرية ، إنها استعداد عقلي للانفتاح على الكائن المنكشف .

استنتاج

حين نتساءل عن طبيعة الحقيقة من أين تستمد مشروعيتها من العقل أم من الواقع أم من الوجدان ؛ ندرك أهمية الإشكال وطبيعته

لقد تعددت الإجابات والمنطلقات فالعقلانية جعلت من العقل مصدر كل الحقائق ، ،والتجريبيون جعلوا من الواقع التجريبي أساس الحقيقة ، ولكل مبرراته وحججه ؛ بل ومبادئه ( فطرية العقل ، صفحة بيضاء). وكلاهما جعلا من مفهوم المطابقة أساس الحقيقة.

لكن فكرة التطابق ستجد من يرفضها لسبب واحد هو أن الحقيقة مجرد حكم عقلي ؛ والحكم حسب هيدجر لا يتعلق بحقيقة الأشياء بقدر ما يتعلق بحقيقة الحكم ، وهنا تبدو فكرة المطابقة غير عملية لأنها تحصر العقل وتجرده من حريته ، لهذا رفض هيدجر فكرة المطابقة وعوضها بفكرة الانكشاف على الأشياء المنكشفة .

ج- الحقيقة كقيمة

مما يعطى للحقيقة قيمة هو ارتباطها برغبة الإنسان وطموحه الدؤوب الذي يقوده إلى المغامرة النظرية والعملية ، ليصل إلى قيمة فكرية وعلمية ، لهذا لن نستغرب حين نجد ديكارت يقوم بتهديم كل المعارف والشك في كل الأشياء للوصول إلى الحقيقة التي لايمكن أن يتسرب إليها الشك ذات قيمة فكرية وأخلاقية ، ونجد هيوم يهدم فكرة العقل كملكة فطرية ليؤسس مبدأ التجريب كأساس لبناء حقيقة ذات قيمة فكرية وعملية ، ونجد ابستيمولوجية القرن العشرين ترفض الطرح الذي يختزل الحقيقة إما في العقل أو في التجريب ويجعل منها محاولة دءوبة لتصحيح خطأ ما .

إن قيمة الحقيقة لا تتجلى في صدقيتها ،ولا في مرد وديتها ، بل هي نشاط وهدف تسعى إليه البشرية حسب تصور بوانكاري يقول " يجب أن يكون البحث عن الحقيقة هدف نشاطنا فهذه هي الغاية الوحيدة الجديرة به " أصبحت الحقيقة مطلبا ملحا ووعيا بخطورة عدم الالتزام بالقيم الإنسانية " فالذي يبحث عن الحقيقة يجب أن يكون حرا كامل الحرية ".

ما نستنتجه هو أن الحقيقة كقيمة تتحدد انطلاقا من التوجه الذي يتخذه الفيلسوف في بناء الحقيقة في انسجام مع نسقه الفلسفي ككل ، ولعل مبدأ الواجب الأخلاقي الذي جعله كانط عنصرا مركزيا لبناء الحقيقة هو الذي أعطى شحنة قيمية للحقيقة ، فالكذب في نظره مناف للأخلاق والواجب ، ومهدم للقانون ، و الكذب في نظره هدم للحقيقة . وكأني بكانط يضفي على الحقيقة بعدا إطلاقيا ووجوديا

في حين يركز نيتشه على علاقة الحقيقة بالحياة وقيمتها تتجلى في كونها جاءت لخدمة الحياة .

سواء مع كانط ، أو نيتشه ، لم يتم تجاوز النظرة المثالية للحقيقة كقيمة ، وكأن المثل العليا هي المحدد لقيمتها ، بينما هناك عوامل واقعية تحدد تلك القيمة : فالتوتر الأنطلوجي ، والإيديولوجي ، يكشف لنا على عالم مملوء بالتناقضات فخلف الحقيقة هناك اللاحقيقة ، وما أن يطمئن الإنسان لكشف ما حتى ينتبه للتيه الذي يعيشه على حد قول هيدجر ، والوهم الذي يحمله أحيانا يؤدي إلى العنف واللامبالاة بل والإقصاء .

السيـــــــاســــــــــــــة

"On me demandera si je suis prince ou législateur pour écrire sur la Politique? Je réponds que non, et que c'est pour cela que j'écris sur la Politique. Si j'étais prince ou législateur, je ne perdrais pas mon temps à dire ce qu'il faut faire; je le ferais, ou je me tairais". (Rousseau, Du contrat social, I, Préambule). Texte 1.

يدخل الشخص في علاقات متنوعة ومتداخلة مع الغير و ينتج نموذجا من الضوابط التي تقنن وتنظم هذه العلاقات ، وقد تكون عرفية أو مكتوبة ؛ وضمن هذه العملية تنشأ تجاد بات واختلافات معرفية ومصلحيه ومبدئية تنتهي بظهور تكتلات مجتمعية تدافع عن مواقعها و مواقفها وتسعى إلى مأسستها . داخل هذا الجو العام نشأت السياسة كممارسة وكفعل لتدبير الشأن العام وفق اختيارات إيديولوجية واقتصادية وثقافية ...

لقد كان مشروع الجمهورية مع أفلاطون تصورا سياسيا للدولة ، اقترح فيه تدابير من شأنها أن تؤدي إلى دولة خالية من العنف أساسها العقل في انسجام مع طبيعة النفس البشرية (النفس العاقلة، النفس الغضبية، النفس الشهوانية) ، ولم يكتب للمشروع الأفلاطوني النجاح لبعده عن واقعية الوجود الإنساني . كان مشروعا مثاليا نظريا (المدينة الفاضلة).

كما وضع المشروع العملي للسياسة في العصر الكلاسيكي والحديث مجموعة من التدابير التقنية لامتلاك السلطة والسهر على قيام الدولة واعتبرت العدالة والحق عناصر تقوض أسس الدولة و يصبح العنف في هذه الحالة مشروعا للدفاع على وجود الدولة ؛ هذا التصور يبعد القيم والأخلاق في العمل السياسي ( الديكتاتورية) . هذه النظرة للسياسة بدأت بالأفول مع المجتمعات الديمقراطية التي بلورت رؤيا معاصرة للعمل السياسي تعتمد المشاركة والتناوب تتحكم فيها صناديق الاقتراع .يعني أن مبدأ التفويض المتعالي لم يعد مقبولا بل حل محله مبدأ التعاقد..

الـــــــــــــدولـــــــــــــــــة

الدولة هي الشكل المؤسساتي للسياسة والتي تتخذ أشكالا مختلفة وفق الاختيارات الإيديولوجية والاقتصادية فهي إما ملكية مطلقة أو ملكية دستورية أو جمهورية ... ويرتبط مفهوم الدولة بالسلطة والنظام ، إنها شكل من أشكال التنظيم الاجتماعي ولا تتحقق إلا بوجود شعب وأرض محددة ومن أهم عناصرها السيادة في جميع المجالات .

تهتم الدولة بحياة الناس السياسية والاجتماعية والثقافية وتتخذ السلطة فيها بعدا مؤسساتيا يوكل إليها تدبير الشأن العام على جميع المستويات . من هنا يمكن إعطاء تعريف أولي للدولة ، بأنها مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية والعسكرية والإدارية والاقتصادية والثقافية ... التي تنظم حياة الأفراد والجماعات وتساعدها في ذلك بشكل غير مباشر مؤسسات لا حكومية تتمثل في الجمعيات والأحزاب والنقابات التي وظيفتها تأطير المجتمع والأفراد . يتبين إذن أن الدولة تتخذ بعدا سياسيا يتعلق بمسألة السيادة ؛ وبعدا قانونيا يتجلى في ضبط النظام ؛ وبعدا اجتماعيا يتجلى في الصراع السلمي بين مكونات المجتمع حول البرامج والاختيارات السياسية والاقتصادية ... ومن هذا المنطلق لم تعد الدولة بنية متعالية تستمد مشروعيتها من المقدس بل أصبحت صناديق الاقتراع هي التي تضفي المشروعية على نظام ما .

1- مشروعية الدولة وغاياتها

من أين تستمد الدولة مشروعيتها ؟

هل قوة الحق هي التي تؤسس الدولة أم حق القوة؟

أقدم نظرية في تفسير مشروعية الدولة هي نظرية الحق الإلهي ؛ أي أن أصل الدولة الفكرة الدينية ؛ وبالتالي الحاكم يستمد مشروعيته من الله مثال الفراعنة ، ولكن هذا التصور سيتم تجاوزه ليأخذ بعدا أخر يصبح فيه الحاكم خليفة الله في الأرض وكلا النموذجين يستمد قوته من الله . يكون فيهما الفرد مجرد موضوع لفعل الحاكم ؛ أي أن الناس مجرد رعايا ليس إلا . هذه النظرة التيوقراطية للدولة ، للفرد ، للقانون ، ستزول مع الثورة الفرنسية ثورة الرعاع ، التي ستؤدي إلى إلغاء الحق الإلهي وتعويضه بالحق المدني و سيأخذ شكله مع فكرة العقد الاجتماعي .

باختصار انتقل الإنسان من حق القوة القائمة على القوة المتعالية إلى قوة الحق أساسها الفعل الإنساني الذي انتهى إلى بناء مجتمع الحقوق والواجبات .مجتمع المواطنين ( المجتمع المدني). ولم يعد لمبدأ العنف أهمية بقدر ما أصبح الناس يتصارعون حول البرامج والاختيارات الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية ...

لقد أشار هوبس في كتابه "التنين" إلى الوضع المأساوي الذي يعيشه الإنسان مما أدى بهم إلى التنازل عن كل حق لهم من أجل الحفاظ على حياتهم والعيش في سلام ، على هذا الأساس نشأ تعاقد أولي بين الناس كتجاوز للحالة الطبيعية التي يحكمها العنف والخوف ؛ وبتنازل الأفراد عن جزء من حقهم منحوا المشروعية لحاكم مركز كل الصلاحيات في يده مقابل خضوع الجميع لإرادته وهكذا فطغيان الحاكم مشروع وسلطته مطلقة لأنه ليس طرفا في العقد . هذه النظرة السلبية للإنسان " كونه ذئب لأخيه" تجاوزها لوك ولم يرى في الوضع الإنساني تلك المأساة التي صورها هوبس . بقدر ما فكر الإنسان في تجاوز حالة الفطرة إلى مرحلة المجتمع السياسي المدني . انتهى إلى بناء مجتمع تضامني جماعي انتهى إلى بناء دولة تعاقدية يتنازل فيها المواطنون على بعض حقوقهم عكس ما قال به هوبز. يكون الملك طرفا في العقد هنا تزول صفة الإطلاقية على حكمه .

يقول روسو" إن من يهب نفسه للجميع ، لا يهب نفسه لأحد " تأثر روسو بلوك ؛وفكر في السبيل لتخليص الإنسان الشرور ألا وهو

طريق التعاقد الاجتماعي ويعتبر الجميع حاكمين ومحكومين طرفا في العقد . تحل الإرادة العامة محل الحاكم المطلق يقول روسو" كل شخص منا يضع تحت تصرف الجماعة شخصه ، وكل قوة تحت قيادة الإرادة العامة " أي ما يحكم وجود أفراد المجتمع هو الصالح العام . السلطة في نظر روسو تستمد مشروعيتها من الشعب .

باختصار الدولة تعبير واضح على علاقات الهيمنة القائمة في المجتمع و يبرر هذه الهيمنة مبدأ المشروعية ، وكل نموذج يدعي بأنه يملك المشروعية التي تخوله حق التصرف بل حق استعمال العنف .

يذهب الاعتقاد بأن أصل الدولة التعاقد ، والامتثال إلى السلطة المهيمنة تضمنه شرعية السلطة التي تستمدها من العادات والتقاليد ، ودور الزعيم كشخصية كاريزمية في لم شمل أفراد المجتمع حوله ، وأخيرا مبدأ الواجب كأساس لتطبيق القانون . ورغم أن ماكس فيبر أبرز عناصر المشروعية فإنه يعتبر الدافع الأساسي للامتثال هو الخوف من الموت والجنوح إلى السلم . نفس المبرر أكد عليه هويس مبرزا أهمية السلطة المطلقة في الحفاظ على النظام .

رغم أن البعض ذهب إلى أن الدولة هي السبيل الوحيد للحيلولة دون العنف الفردي وبناء مشروع مجتمعي ؛ ظلت الدولة سجينة النظرة الكلية للسلطة وكان لا بد من تجاوز هذه النظرة حين أجبر ت الحركات الاجتماعية كل الأطراف على الدخول في التعاقد .

2- طبيعة السلطة السياسية

تتوقف الدولة على بناء مؤسسات تمنحها قوة وتجعلها قادرة على إدارة الشأن العام ، ولكي تحقق هذا المطلب لا بد من أجهزة تنفيذية و تشريعية وقضائية . وتتدخل الدولة في جميع المجالات سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ؛ وهنا تطرح مسألة طبيعة الدولة . هل هي متعالية عن المجال الذي تمارس فيه أم محايثة له ؟

يذهب البعض إلى القول بان الفرد يجب أن يتمتع بمطلق الحرية يقول كانط " لا يوجد إلا حق واحد حق الإنسان في الحرية " وعلى هذا الأساس الإرادة الفردية مصدرا للقوانين و فوق إرادة الدولة ؛ في هذا النموذج تأخذ الدولة طابعا فرديا تكون الملكية حق مقدس ، والمنافسة مبدأ أساسي في المجال الاقتصادي . هذه النظرة تستمد معطياتها من مبدأ العقد الاجتماعي " إن هدف كل جماعة سياسية هو صيانة حقوق الإنسان الطبيعية الخالدة ، وأن صيانة حقوق الإنسان والمواطن تقتضي قيام سلطة" الدستور الفرنسي 1789 .

إلى جانب النزعة الفردية ، نجد النزعة الجماعية التي تقدم مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد . وبالتالي تفترض هذه النزعة تدخل الدولة في كل شيء . مما أدى إلى إنزلاقات خطيرة في ممارسة السلطة مثال الديكتاتوريات والسلطة المستبدة ، وهذا النموذج قد يؤدي إلى سلطة مطلقة تسلب الفرد حريته . وتشل حركته وتقتل فيه روح الإبداع والخلق .

خلاصة القول إن إشكالية السلطة تتحدد من خلال علاقة الفرد بالدولة وذلك بتحديد طبيعة نظامها السياسي واختياراتها الإيديولوجية والاقتصادية .

يبدو أن المجتمعات البشرية عرفت تغيرات جوهرية على مستوى ممارسة السلطة ولم تعد النزعة الفردية ممكنة لتسيير الشأن العام ، كما فقدت النماذج الكلية مشروعيتها أمام التطور الاجتماعي والسياسي . وأصبح الحديث يجري على مفهوم الديموقراطية كمصدر لمشروعية الدولة .

يعتبر ألتوسير الدولة هي مجموعة من الأجهزة وتنقسم إلى أجهزة قمعية ، تتجسد في الشرطة والجيش والمحاكم والسجون ...وأجهزة أيديولوجية تتمثل في المدرسة والإعلام والجمعيات أي كل المؤسسات الفكرية والثقافية والدينية...

الجهاز القمعي موحد وهو بيد الدولة التي تمثل السلطة الشرعية ، والجهاز الإيديولوجي مجزأ وخاص . إلا أن ميشيل فوكو يرى بأن الدولة لا تتحد في الأجهزة ، فالسلطة هي مجموع القوى المتعددة والمتناقضة والمتصارعة ضمن استراتيجيات مختلفة ، وداخل هذا الصراع تتولد الدولة وهي بالتالي تسمية لوضعية ما في مجتمع ما .

إن السلطة في نظر فوكو محايثة (ملازمة) للمجتمع ، وليست متعالية إنها مجموع الإستراتيجيات المناسبة لإخضاع مجموعة بشرية ما في مرحلة تاريخية ما . يقول انجلز ((ليست الدولة سلطة مفروضة على المجتمع من خارجه، كما أنها ليست " حقيقة الفكرة الأخلاقية " ولا " صورة العقل وحقيقته " كما زعم هيغل، وإنما هي، بالأحرى، نتاج المجتمع في طور معين من أطوار نموه. إنها شهادة على أن هذا المجتمع قد تورط مع نفسه في تناقض يتعذر حله، لأنه انقسم شيعا متنافرة عجز عن استبعادها. وحتى لا يفني التنازع الطبقات الاجتماعية ذات المصالح الاقتصادية المتعارضة - وفي ذلك فناء لها وللمجتمع ذاته - تحتمت الحاجة إلى وجود سلطة تكون - في الظاهر- فوق المجتمع، ويكون واجبها أن تلطف الصراع وتحصر مجاله في الحدود التي تحفظ " النظام ". وهذه السلطة، التي هي وليدة المجتمع، ولكنها تتخذ مرتبة أسمى من مرتبته وتغدو -تدريجيا- غريبة عنه ، هي الدولة . . .))

3- الدولة بين الحق والعنف

يقول فرنسوا لوجاندار ((في الواقع إن الدولة هي التي تحتكر مبدئيا السلطة المادية بممارسة الضغط وهي التي تقاضى وتعاقب تحظر القتل و تفرض النظام, نظامها هي أكثر منه النظام الذي يريده مجموع المواطنين. إن لعبة السلطة بالذات تنطوي على عنف تظهره لعبة الجماعات الضاغطة. و لذا يعود للدولة أيضا أن تقرر الحرب شريطة ألا تكون لعبة بأيدي قوى تسيطر عليها. تلك ليست إلا أدني مظاهر ازدواجية الدولة فهي تضمن النظام و تكرس الحرب تدين قتل المواطنين و تفرض قتل العدو تدعي معرفة الخير و الشر وحق تصنيف بين صديق وعدو توحد بسهولة بين قواتها التأديبية وقوى الكون, بين نظام المجتمع القائم و قوى العالم أليست هذه الازدواجية الأخيرة هي التي تبرر التضامن بين السياسي و القدسي ؟ فكما أن القدسي يمارس عنفا على التصور الخيالي ويضمن الامتثال لنظام ما كذلك يظهر ما هو سياسي بمظهر القدرة القدسية بالذات, حتى إن المساس بسلطة الدولة يميل إلي أن يصبح كفرا و أن هذا الميل المتأصل عميقا في نفس الإنسان يترسخ كثيرا عندما تريد السلطة التي تحتكر المقدسات أي السلطة الدينية أن تجعل من السلطة العامة مدافعة عن قيمها الخاصة. و كما أن المجتمع لا يتردد في إخفاء رقابته و سيطرته تحت ستار حريات جذابة ومزعومة كذلك ينكشف العنف الفاضح لحرب تشن على الفقراء باسم سلام الفقراء.))

الدولة في جميع الحالات وفي جميع صورها تحتكر السلطة وتدير اللعبة السياسية وفق إستراتيجية معينة ؛ فهي التي تقاضي ؛ وهي التي تفرض النظام ؛ ... وفي هذه اللعبة تمارس الدولة العنف بكل أشكاله المادي والمعنوي ، فكما أن المقدس يمارس العنف على المتخيل ويضمن الامتثال ، فكذلك تمارس السلطة عنفا يضمن الامتثال ؛ وأي مس بالدولة كيفما كان شكل السلطة يعتبر خيانة . ويزداد القهر كلما جنحت الدولة إلى الهيمنة والإنفراد بالسلطة مما يجعلها متعارضة مع مبدأ الحق والحرية . وتبدو كأنها مناقضة للحق الفردي والجماعي .هكذا تكون المظاهرات والتجمعات والإضرابات وكل أشكال الاحتجاج الاجتماعية ممارسات غير قانونية تواجهها الدولة أحيانا بالعنف لحماية الحق العام . وتصبح عبارة الحق العام فضفاضة تضمن التصرف المشروع للدولة في استخدام العنف والقوانين.

يتصور ميكيافليي أنه لا دولة بدون عنف وقانون ؛ بمعنى أن السلطة لا تستقيم إلا بالعنف واستخدام كل الوسائل لقمع الاضطرابات الشعبية . إن ميكيافلي يبرر حق الدولة في الهيمنة بكل الوسائل الممكنة . منها الخداع والرحمة والمكر والعنف ... هذا التصور جاء في وقت كانت تعيش إيطاليا تمزقا دمويا حول السلطة أضعف الدولة وأفقدها هيبتها ؛ مما جعل ميكيافليي في كتابه الأمير يقترح طريقة للخروج من هذا الوضع وخلق دولة وطنية حرة أساسها العنف والقانون .

لم تكن الدولة يوما ما محايدة ولا سلطة أبدية بقدر ما كانت موازن القوى تتحكم في مصيرها . الدولة في نظر انجلز وليدة التعارضات والصراع الطبقي بل جاءت لحل هذا الصراع ؛ ولم يكن يوما ما العنف والخداع والمكر حلا لبناء الدولة ؛ كانت الحاجة إلى السلطة للتخفيف من وطأة الصراع والحفاظ على النظام . وكأن وظيفة الدولة جاءت للحد من التعارضات القائمة بين الطبقات المكونة للمجتمع .

العنــــــــــــــف

تدعي السياسة بأنها ممارسة لجعل حياة الناس الجماعية والفردية أقرب إلى الطمأنينة والتعايش ؛ لكن واقع الأمر غير ذلك . فالسياسة تخلق وضعا غير منتظر يصحبه الاضطراب والتوتر ، لأنها عالم متناقض إلى حد تصادم الاختيارات والتيارات ، ومثل هذا الوضع يؤدي إلى ظهور العنف بكل أنواعه عنف الإنسان ضد الطبيعة ، عنف الإنسان ضد نفسه ، عنف الإنسان ضد الإنسان ، عنف الفقراء ضد بعضهم ، عنف الأغنياء ضد الفقراء ، عنف الفقراء ضد الأغنياء ، وعنف من أجل العنف ... ويبقى منطق القوة والهيمنة هو السبيل للتحكم في الاضطرابات والتوترات . فكلما لجأ الناس إلى الفوضى سهل على أدوات العنف التدخل من أجل الضبط .

إن مفهوم العنف يثير الكثير من التساؤلات لأنه يحيط نفسه بكثير من الألغاز والحكايات والأساطير. ولأنه يشتغل داخل مؤسسات ويسعى إلى إضفاء المشروعية عليه .وتستعمل لفظة عنف في كل مجالات الحياة الفردية والجماعية والعائلية والسياسية والدينية . هذا التعدد يجعلنا أمام مقاربات متعددة ؛هناك مقاربة تحدد العنف في وسائل الضغط للحد من إمكانية الغير ؛ وهناك مقاربة تتعدى مسألة الإكراه عبر الوسائل التي تحتكرها الدولة ، إلى سجن الإنسان من طرف الخطاب السائد في رؤية واحدة وصورة واحدة كما وضح ذلك ميشيل فوكو . وهناك مقاربة بورديو التي تشير إلى العنف الرمزي والهيمنة الرمزية الذي يتجلى في الضغوط اليومية والتدخل المباشر في الممارسات اليومية والمناهج التعليمية والعادات السائدة من خلال التربية و"التدجين" و"التطويع"، خاصة تربية الجسد ومتطلباته وذلك بجميع الطرق القوة ، الدعاية ، التخويف ...

إن تعريف العنف يرتبط بإدراكات وتجارب جماعة بشرية محددة ، وباستراتيجتها واختياراتها الإيديولوجية. كما أن الحديث عن العنف يدفعنا إلى إصدار أحكام واتهامات لأن كل طرف يدعي أنه يملك الحقيقة والمشروعية ويقوم بتجريم الآخر .مما يجعل إشكالية العنف قائمة وحلها صعب للغاية لأنها ترتبط بالإنسان كفاعل رمزي ، فإذا نظرنا إليه من خلال الصراع القائم بين الأنا والغير يصبح العنف مكونا طبيعيا كما صور ذلك هوبس ؛ والخروج منه لايتم إلا بممارسة الدولة عنفا أقوى من عنف الفاعلين ؛ في حين يرى هيغل الدولة مثال التركيب الأعلى الذي يجسد العقل في التاريخ الذي يضع حدا للعنف.

إن نظرتنا للآخر وتصنيفه تنتهي بالضرورة إلى تصنيفه إما كمجال للعنف أو كمجال للسلم.و كل مجموعة أو شعب له إستراتيجيته واختياراته الإيديولوجية والثقافية والاقتصادية ومن هذا المنطلق يحدد تصوره للآخر كفرد أو كجماعة فيطلق الوصف الذي يراه ملائما للمرحلة ( أجنبي ، غريب ، عجيب ، مخيف ، مرفوض ، كافر ، ملحد ، ...) وكلما تم نعث جماعة ما بصفة من الصفات حتى تعطي الجماعة الواصفة لنفسها الحق للقضاء على المخيف والمرفوض والملحد ...

إن مفهوم العنف لا ينفصل عن الإطار الثقافي والاجتماعي والتاريخي والاقتصادي الذي يندرج ضمنه ، وبالتالي التعريفات المقترحة رغم انطلاقها من مبدأ القوة فإنها تثير عدة إشكالات تتعلق بالقوة كما يتصورها المعنف (بكسر النون) هل هي قوة مادية فيزيقية ، أم رمزية معنوية نفسية ؟ هل كل فعل متسم بالقوة فعل عنيف ؟ ثم ما هي الوضعية الاجتماعية المؤدية إلى إنتاج سلوك عنيف ؟

1- أشكال العنف

لم يعد مجال الطبيعة والآلهة مفسرا لظاهرة العنف ، إنه ظاهرة خاصة بالإنسان ككائن اجتماعي يتفاعل مع الغير ويدخل معه في صراعات إيديولوجية واجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية ... والصعوبة التي حالت دون إعطاء تعريف محدد للعنف هو تعدد مجالاته وتنوع مضامينه واختلاف المنطلقات التي تناولت العنف : مثال

إذا تناولنا العنف من البعد السيكولوجي يبدو كتعبير عن قوة داخلية تتجلى على شكل انفعالات تأخذ شكل سلوك عدواني ، إنه حالة من التوتر . أما إذا تناولنا العنف من الناحية الأخلاقية فإنه يأخذ شكل اعتداء على الحرية . وإذا تناولناه من الناحية السياسية يصبح العنف يتجسد في القوة التي تسعى إلى السيطرة على السلطة أو الحفاظ عليها ( انظر درس الدولة) . إن تباين المنطلقات يبين لنا الطابع الإشكالي للعنف ، وتنوع تمظهراته .

في المجتمعات المعاصرة ينتشر العنف بكل أشكاله ؛ نرى العنف في الكلام ،و السلوك ، إنه يجتم في لغتنا اليومية ، و حياتنا اليومية : يتجلى في الرفض المطلق لنموذج الكبار من طرف الشباب ، الذي يتخذ شكل صراع بين الأجيال . من هنا يمكن اعتبار ظاهرة العنف نتيجة مجتمعية . فالإنسان يبحث في الحياة عن الإشباع المادي والمعنوي والذاتي تحقيق أناه égo والرأي الخاطئ الذي يكونه الشخص عن قوته وجبروته ،وعن مأساته ،وسعادته ، يجعلان منه كائنا redicule et méprisé من هنا تنشأ الرغبة في الانتقام والتدمير .

بماذا نفسر أن الحياة الاجتماعية تحول الإنسان إلى عنصر عنيف ؟ هل يجد العنف أصله في الحياة الاجتماعية أم في الفرد؟

يقول أركون " العنف مرتبط بالتقديس والتقديس مرتبط بالعنف ، وكلاهما مرتبطان بالحقيقة أو ما يعتقد أنه حقيقة . والحقيقة مقدسة وتستحق بالنسبة لأصحابها أن يسفك من أجلها دم " إن في تقديس الحقيقة والاعتقاد بأنها توجد بصورة مطلقة يعتبر المنفذ الوحيد الذي يجعل من العنف ممكنا بكل أشكاله ، المادي والرمزي . ففي المجتمعات المعاصرة أصبح العنف المادي أكثر شراسة وتنوعا يستعمل كل الوسائل التكنولوجية لجعله أكثر شدة وتدميرا نموذج الحرب المعاصرة التي تلعب فيها التكنولوجيا دورا تدميريا خطيرا . وتستعمل الجهات المعنفة (بكسر النون) الإعلام كأداة لترويج صور العنف والعنف المضاد . أي أن المعنف(بكسر النون) يتحكم في آليات العنف بل ويستطيع تحديد الأهداف المراد تحقيقها . إلى جانب العنف المادي هناك العنف الرمزي الذي يعتبر أخطر الأنواع لأنه يتحكم في مصير أجيال بكاملها وتكمن خطورته أنه سلس وغير محسوس بل ويجعل المعنف (بفتح النون ) شريكا في عملية تعنيفه . باختصار يتخذ العنف عدة صور مادية ومعنوية وتتجلى أشكاله في الحياة اليومية والاقتصادية والسياسية والتربوية والإعلامية ... وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال التالي كيف يتولد العنف ؟

2 - العنف في التاريخ

يكشف الوضع البشري عن الرهان الذي اتخذه الإنسان في حياته الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية ... من أجل تحقيق الهيمنة على الغير وعلى الطبيعة . وهنا كان العنف بكل أشكاله المادي والمعنوي الأداة التي مكنته من تحقيق تلك الهيمنة . والتاريخ البشري مليء بصور العنف والعنف المضاد. فمنذ القدم لجأ الإنسان إلى أساليب مختلفة من العنف لإشباع حاجاته الشخصية الجسدية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والروحية ...ومع ظهور وتطور الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أصبحت الحياة أكثر تنظيما و ازدادت حاجات الناس الفردية والجماعية مما أدى إلى امتداد دائرة العنف لحماية النظم والدود على الحدود... بهذا الشكل برر الإنسان العنف وابتكر أساليب أكثر شراسة : التعذيب السجن الاضطهاد العزل التهميش التمييز التخويف ...

و مارست مجموعات بشرية العنف وبررته كوسيلة مشروعة لتحقيق أهدافها المعلنة والغير المعلنة ، ومن بين هذه المجموعات مثلا المجرمين الذين يتجاوزون القيم والأعراف والقوانين وينجرفون مع رغباتهم وحاجاتهم الآنية والشخصية إلى حد أصبح الحديث عن الجريمة المنظمة ؛ فهؤلاء يرون في العنف وسيلة مشروعة ، وتبين التجارب التاريخية أن أفضل وسيلة لردع هذه المجموعة هي سلطة القانون التي تعطي للمجتمع حق المتابعة والعقاب والمقاضاة . وهناك مجموعة السياسيين منهم رجال النفوذ والسلطة والتنظيمات الحزبية .والتاريخ مليء بالأمثلة التي بررت فيها هذه المجموعة العنف من خلال برامج الاضطهاد والنفي والتسلط والتهميش أو الحروب التي نشبت باسم السيادة أو الأمن القومي وقد دهب ضحية هذه السلوكات عشرات المواطنين الأبرياء مثال الحروب الأهلية ، الحرب العالمية الثانية ... إلى جانب هذا هناك المجموعة التي مارست كل أشكال القمع والاضطهاد والقتل الجماعي باسم الدين مدعية أنها الجهة المخولة لقول الحق ونشر العدل والخير لأنها تتكلم باسم الخالق مثال ماقامت به الكنيسة في القرون الوسطى من قتل وتدمير . ولعل مقولة الإلحاد والزندقة كانت كافية لممارسة العنف وتبريره في حق الآخر ؛ فالتعصب المسيحي أدى إلى جرائم ضد البشرية والتطرف الديني أدى إلى ظهور الفكر السلفي الجهادي الذي يبرر العنف ويشرعنه .

إن أفضل وسيلة للحد من آفة العنف السياسي والديني هو الحد من نفوذ هذه المجموعات وتحجيم نشاطاتها المدمرة من خلال شيوع النظم الديمقراطية وإشراك المواطنين وإقرار مبدأ التناوب والتسامح وقبول الآخر .

ترى الماركسية بأن تاريخ المجتمعات هو تاريخ الصراع بين الطبقات المتعارضة المصالح والأهداف وينتهي هذا الصراع إلى وضعية تكون فيها طبقة مهيمنة وأخرى مهيمن عليها ، وطبعا هذا لا يتأتى إلا إذا وضعت آليات قانونية وواقعية لضمان السيطرة من جهة والامتثال من جهة أخرى . ومن بين هذه الآليات آلية العنف في بعده المادي الذي يبرره القانون وضرورة حفظ النظام . لقد جعلت الماركسية من الصراع الطبقي المحرك الأساسي لمبدأ العنف بكل أشكاله . لكن هناك موقف آخر يختزل مسألة " الصراع" في مبدأ محاكاة الرغبات ؛ أي أن تضارب الرغبات يؤدي إلى العنف الذي أساسه التنافس ؛ عند الحيوان ينتهي الصراع إلى السيطرة بخضوع الضعيف للقوي ؛ بينما عند الإنسان يأخذ التنافس بعدا آخر يتميز أحيانا بالعدوانية والشراسة وتنتقل العدوانية إلى الآخرين ؛ هذا الوضع أدى الناتج عن أزمة المحاكاة حولت العنف إلى اتجاهات أخرى أكثر رمزية ودلالة مثال الأضحية إنها فدية تحمل شحنة عدوانية ولعل أساطير الأوائل مليئة بمثل هذا النوع من الإسقاط : نموذج أسطورة جلجامش .

إذا كان العنف تحركه دوافع واقعية أو ذاتية فمن أين يستمد مشروعيته ؟

3 – العنف والمشروعية

في تعريف لالاند للعنف بأنه" استخدام غير مشروع أو غير قانوني للقوة" يبرز مبدأ المشروعية وعلاقته بالعنف كممارسة مادية أو معنوية . ما هو معيار المشروعية ؛ هل القانون يعتبر معيارا للمشروعية ؟

أصبحت إشكالية المشروعية تفرض نفسها لأسباب منهجية منها أن الباحثين باتوا يميزون بين العنف الشرعي والعنف الغير الشرعي ، بين العنف الهادف إلى إلحاق الضرر وتحقيق الهيمنة ، وبين العنف الثوري الذي غايته التحرر ، بين العنف الذاتي والعنف الجماعي ... و أغلب الأوصاف التي تعطى للعنف تنطلق من استعمالاته مما يجعل البحث ينحصر في دائرة القيم والأخلاق والقانون وعلاقة العنف بالسلطة والحرية .إننا أمام تقابلات مثل : النظام عكسه الفوضى ؛ الخير عكسه الشر العنف عكس اللاعنف لهذا المضمون الذي نعطيه للعنف يختلف باختلاف الثقافات والاختيارات الإيديولوجية عل حد تعبير سوريل ؛ فميكيافلي مثلا يبرر حق الدولة في الهيمنة بكل الوسائل الممكنة منها استعمال العنف ( راجع درس الدولة) وكانط يرفض استعمال العنف ضد المشروعية وإن كانت ظالمة.

يبقى العنف كسلوك وممارسة مادية ورمزية مشكلة فلسفية علينا التفكير فيها بجدية ومواجهتها بالعقلانية التي تخرج المبدأ من المسكوت عنه إلى المفكر فيه بتحويل العنف إلى اللاعنف

نحن أما تصورين متناقضين لمشكلة العنف ومشروعيته ، فماكس فيبر يرى في مبدأ التعاقد يخول للدولة الحق في استعمال العنف من أجل الحفاظ على النظام ، وبما أن الدولة في نظر فيبر تقوم على مبدأ تقسيم السلط والتمثيلية تبقى هي المؤسسة الوحيدة التي تحتكر وتمتلك حق استخدام العنف لصالح الجماعة . بمعنى أن العنف الصادر عن أجهزة الدولة شرعي "احتكار الدولة للعنف = عنف الدولة مشروع " في مقابل هذا التصور ؛ يقول غاندي بأن العنف بكل أشكاله غير مشروع لأنه يقوم على إرادة إلحاق الأذى بالآخر . ويقترح مبدأ اللاعنف لمواجهة العنف ؛ مستبعدا كل الأشكال المادية للصراع حتى لا يلحق الأذى المجموعات البشرية . إن العنف في نظر غاندي رذيلة واللاعنف حكمة يعبر عن إرادة حسنة "العنف بكل أشكاله غير مشروع" .

إن مسألة العنف بمختلف أشكاله أصبح إشكالية تعاني منها المجتمعات المعاصرة ، وهنا يتجلى رهان الفلسفة في العمل على تقليص هامش العنف بإذكاء روح الحوار والتسامح ، والتحفيز على روح النقد والانفتاح على الآخر . "إن مهمة الفكر اليوم هي تطوير أشكال الحوار" . والقضاء على كل أشكال التمييز والتوتر داخل المجتمعات . وطبعا هذا لن يكون ممكنا إلا بإقامة مجتمع عادل مجتمع التناوب مجتمع يؤمن بحقوق كل مكوناته ؛ مجتمع الاختلاف والحوار وقبول الآخر ضمن دولة الحق والقانون . مجتمع يقوم على الحق والعدالة والمواطنة .

Aucun commentaire: